تستطيعُ العين أن تجمع كل طاقة القلب في نظرة واحدة. كما يمكن للعين أن تحمل المرارة في نظرة، وتحمل أسى الأيام في نظرة. ويمكن للعين أن تتكلم بدون ألفاظ ينطق بها اللسان، وأن تقول في لمحة واحدة ما يظل اللسان يرويه في ساعات، أو في أيّام.
إنَّ الإنسان يتركّز كلّه، ويمكن تلخيصه كلّه في العين، ولذلك فأنا أحب العيون، وأخاف العيون.
والفلاسفة والشعراء لم يهتموا بشيء في الإنسان بقدر ما اهتموا بالعين. فالعيون تقوم في بحر خفي من الدموع والأفراح، بحر قد نراه أحياناً، وقد لا نراه، ولكنه قائم وراء العين. وأقوى العيون تأثيراً هي عيون الأبرياء... عيون الأطفال والمظلومين، فإنهم لا يستطيعون التعبير بلسانهم بقدر ما يستطيعون التعبير بعيونهم.
كم أحب العيون وأخاف العيون... كم أحب الحديث الصامت الذي ينطلق من بين الجفون.
فهو يملك من التأثير على القلب أقوى مما يملكه أبرع الشعراء وأكثرهم عبقرية في صناعة الألفاظ... وخير من قال في هذا الشاعر العربي جرير:
إنّ العيون التي في طرفها حَوَرٌ... قتلننا ثمّ لم يُحيين قتلانا
يَصرعن ذا اللّبّ حتى لا حراك به... وهن أضعفُ خلق اللّه إنساناً
بل هي أكثر من ذلك عند أبي الطيّب المتنبي، حينما يصف قتيل الهوى مضرجاً بدموعه، بينما قتيل المعارك مُضرّج بدمائه... فهو يقول:
لا تعذُلِ المشتاق في أشواقه ... حتى يكون حشاك في أحشائه
إنّ القتيل مُضرّج بدموعه ... مثل القتيل مُضرّج بدمائه
وتنوعت أوصاف العيون في الشعر العربي، إذ لم يقف الأمر فقط على حالة الشاعر أو طريقته في الوصف، إنما لكل عين نظراتها وأهدابها التي تختلف عن الأخرى.
وهي متنوعة من قبل في اللغة العربية، وجاء هذا التنوع وفقاً للون العين واتساعها وما تتركه من وقعٍ في النفوس، فالعيون السوداء تختلف عن العيون الزرقاء أو الحوراء... إلخ.
ومن أشهر الصفات الجميلة للعيون والتي تغنى بها الشعراء العيون الفاترة، فالفتور هو الذبول والانكسار في العيون، وغالباً ما يكون من أصل الخُلقة، وكثيراً ما وصف الشعراء ذلك بالمرض والسقم: "ليس القصد المرض والسقم وإنما مقاربة للذبول في العين، كأنها عين سقيمٍ، والقصد ما تظهره العين من غنجٍ في النظر".
ومن أشهر ما قاله الشعراء عن العيون الفاترة يزيد بن معاوية يجيب نداء العيون الفاترة، وقد وصف يزيد (وهو أحد الخلفاء الأمويين)، جاريته التي تملك عينين فاترتين سحرتاه بغنجهما، فقال:
على أنّي أجيب إذا دعتني... ذوات الدلِّ والحدق المراض
ووصف الشاعر ابن الرومي، فتور العيون بأنه ضربٌ من الغنج والدلال، فقال:
يسبي العقول بمقلةٍ مكحولةٍ ... بفتور غنجٍ لا فتور نعاس
ويصف الشاعر العراقي جميل صدقي الزّهاوي سحر العيون بأنها تُغني عن السيوف، لكنها تؤدي مهمتها، دون أن تمتشق كالسيوف من أغمادها:
دع عنك ذا السيف الذي جرّدته ... عيناكِ أمضى من مضارب حدّه
كل السيوف قواطع إن جرّدت... وحسام لحظك قاطع في غمده
ويقول المتنبي في قصيدة أعيدوا صباحي، بأن نهاره لم يعد إلّا ظلاماً بعد فراق عيون من يحب:
أَعيدوا صَباحي فَهوَ عِندَ الكَواعِبِ... وَرُدّوا رُقادي فَهوَ لَحظُ الحَبائِبِ
فَإِنَّ نَهاري لَيلَةٌ مُدلَهِمَّة ... عَلى مُقلَةٍ مِن بَعدِكُمْ في غَياهِبِ
بَعيدَةِ ما بَينَ الجُفونِ كَأَنَّما ... عَقَدتُمْ أَعالي كُلِّ هُدبٍ بِحاجِبِ
أما الشاعر نزار قباني، فتمنى أن تبقى تلك العيون السود بسلام، فقط ليطمئن ويرتاح، فقال:
ذات العينين السوداوين المقمرتين
ذات العينين الصاحيتين الممطرتين
لا أطلب أبداً من
ربّي إلّا شيئين
أن يحفظ هاتين العينين
ويزد بأيامي يومين
كي أكتب شعراً
في هاتين اللؤلؤتين
وقول أمير الشعراء أحمد شوقي، الذي لم يجد ما يشكو له تعب الشوق والحب إلّا عيون المحبوبة ذاتها، فجعل العيون الذابلة الفاترة قصده وملجأه، فقال:
داري العُيونَ الفاتِراتِ السَواجِيا
وَأَشكو إِلَيها كَيدَ إِنسانِها لِيا
قَتَلنَ وَمَنَّينَ القَتيلَ بِأَلسُنٍ
مِنَ السِحرِ يُبدِلنَ المَنايا أَمانِيا
وَكَلَّمنَ بِالأَلحاظِ مَرضى كَليلَةٍ
فَكانَت صِحاحاً في القُلوبِ مَواضِيا
ووصف إيليا أبو ماضي في قصيدته جمال العيون بقوله:
رأيت في عينيك سحر الهوى
مندفعاً كالنّور من نجمتين
فبتّ لا أقـوى على دفـعـه
من ردّ عنه عارضاً باليدين
يـا جنـّة الحب ودنيا المنى
ما خلّتني ألقاك في مقلتين
وللعين صفات أخرى، وتكمن في تمنّي زوال النّعمة عن المحسود، وتكون مكلّلةً بالصّفات الذّميمة، كالغيرة، والحقد، والكراهية. قال الشّاعر:
أيا حاسداً لي على نعمتي
أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمه
لأنّك لم ترضَ لي ما وهب
فأخزاك ربّي بأن زادني
وسدّ عليك وجوه الطّلب
أما العين القاتلة (السمّية): فهي من أكثر أنواع العين ضرراً؛ فهي تخرج من العائن إلى المعيون مباشرةً بقصد الضّرر به. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (عَلامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، هَلا إِذَا رَأَيْت مَا يُعْجِبك بَرّكت).
التعليقات