هذه مقالة من المقالات الخِفاف، ليست في شأن سياسة، ولا اقتصاد، ولا اجتماع مما يثقل على الناس قراءته أو الاستماع إليه أو الخوض فيه، ثم هي ليست رسالة أخوية أبعث بها إلى ابن عم مسافر، ولا إلى صديق مهاجر، لكنها رسالة شكر وعرفان أتوجه بها إلى من ليس يقرؤها، ومن ليس يعيها إن قُرئت له، ومن ليس يجيب شكرها إن تُليت عليه، غير أنه لا يزال ينالني نفعه خيراً من كثير من الأحياء الناطقين القادرين بأنفسهم! فكان حقاً له علينا التنويه به، والذكر له.

فلقد كانت لي مركبة تنوب عن كل مركبة، ومواصلة تكفيني همَّ كل مواصلة، ودراجة أجدني غنياً بها عما سواها، وإني لئن ذهبت أحصي فضائلها، وأعدد منافعها لذهب شطر يومي ولمَّا أُوَفِّها بعد حقها!

كيف لا وهي الركوبة الحاضرة المهيئة أبدًا، فلا تنتحل لي المعاذير، ولا تعتل بكثرة الخلل، ولا تتعطل بنفاد وقود، وليست تثَّاقل عن وجهة أردتها عليها، وليس يثقل عليها حمل حملتها إياه، بل هي تحملني، وتحمل لي، وتبلغني وجهتي الذى أردت من غير أن تسألنى أجرًا، أو تلتمس مني رزقًا، وأهل المدن يعلمون كم تقتطع المواصلات (خاصها وعامها) من أرزاقهم وأقوات عيالهم، فأما هذه فوقودها قدماك، وزادُها الهواء، وإصلاحها ضغطة بيد، أو مَسّة بمفك فإذا هي تسبق الريح، فلو أحصيت ما تنفقه عليها في طويل عامك لوجدته أقل مما تنفقه في بضعة أيام ثمنًا لوقود سيارتك، أو أجرة لمواصلة، وفي ذلك حفظ لمال كثير أنت أحق به، فأي مؤنة هي أخف من تلك؟!

ثم هي كذلك خفيفة المؤنة على صاحبها في مبيتها وانتظارها، فليست بالتي تقتضيك كراء موقف لمبيتها، فإنما هو أن تدخلها دارك وتوصد دونها بابك، فتبيت وتقيل غير مزاحمة أحداً في فراشه ولا ممشاه، فأما إن كنت عليها في طريقك وعرضت لك حاجة تريدها فما هي إلا أن تنزل عنها فتجنبها جداراً من الجدران، أو تنحيها عند رصيف، ثم اذهب فالتمس حاجتك وارجع فتجدها كما تركتها، لم يَسِمْها الضابط بمخالفة، ولا سطا عليها اللص بسرقة، ولا سألك السائس أجر خفارتها، فهل تدع هذه لما يطمع بك السائس، ويغري بك السارق، ويحضر الضابط؟!

والدراجة الهوائية كذلك هي أسرع مسيرًا وأحفظ للوقت في المدن، ولا تنخدع برقم 220 كم/ساعة على عداد سيارتك، فإنه ليس لك منها إلا 20 كم/ساعة إذا كنت في زحمة مدينة! فأما الدراجة فتسرع بك إن كان الطريق ذُلُلًا؛ فاشدد بها الجري ما وسعتك رجلاك، فإن انضم عليك المضيق، وازدحم الطريق فهي تروغ بك ذات اليمين، وذات الشمال، وتنسرب كل مسرب حتى تخلص بك من الزحام فتصل وجهتك التي أردت، والقوم خلفك لا يزالون محبوسين في إشارة لا تفتح إلا ريثما تغلق، أو محصورين عند مفترق طرق لا يتقدم بهم ولا يتأخر! فإن لم تجد في الطريق مسلكاً، ولا مسرباً، ولا مراغاً فليس أيسر من أن تحملها بين يديك فتجاوز طريقك المسدد هذا إلى آخر ثم تمضي.

ومن جملة منافع الدراجة الهوائية أنها تقيك التزاحم والتضاغط في المواصلات، مع ما فيها من الضيق، وثقل الأنفاس، وتغير الريح، وأنت لا تقدر أن تقول لهذا: أفسح، ولا لهذا: استحم، ولا لذاك: طيِّب فمك، فكلكم مضطر إلى ركوب الصعب، ثم هي قبل ذلك تصون وجهك عن النظر في وجوه السائقين، وأكثرهم كالح عابس، سيئ القول، أرعن القيادة، ليس يراك إلا قرشًا ملقًى على الأرض، فيميل عليك ريثما يلتقطه، ثم يبادر بالفرار من قبل أن تأخذ مجلسك من السيارة ليلتقط قرشًا آخر غيرك، وليس يضيره سلمت أو سقطت أو كُسرت، فأنت مع هؤلاء إن سلمت من خصلة آذاك بأخرى لا محالة، حتى لكأن أحدهم لم يجلس إلى مؤدب قَطُّ، ولا مَرَّ بباب معلم قَطُّ! فلو لم يكن من دراجتك إلا أنها تقي عرضك من ملابسة هؤلاء إذن لكفى.

ودراجتك كما كانت لك عونًا في السعي والجد، فإنك آخذ منها بحظ وافر من الترفيه والترويح إن أردت، فما عليك إلا أن ترتقب يوماً صحواً معتدل الجو، ساكن الريح، فتنطلق بها حيث يطيب لك من الريف، فاهبط بها ما شئت من حدائقه، وتمتع من كل "فاقع وناضر وقانِ"، واملأ كأسًا مترعة هناك من "أشربة وقفن بلا أوانِ"! فإن أنت سئمت الروض ثمرًا وزهرًا (وهي لا تُسأم ولكن طبع الآدمي الملال) واشتهت عينك "من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها" فتلك زروع القوم مُعْرِضَة دونك فيها الكفاية، فاسلك سبيلاً بينها، وانظر إلى طعامك قبل أن تتداوله المطابخ، أو تتناوله المغارف، أو تعالجه يد الطابخ، فهنالك في هذا الريف لن ترى النبات صنفاً من المأكولات، بل سترى مخلوقًا يُخلق خلقًا أمام عينيك طوراً من بعد طور، وحالاً من بعد حال: بذرة، فناشئة، فزهرة، فثمرة يانعة "فتبارك الله أحسن الخالقين".

إنَّ نزهة كتلك لا تنال النفس منها حظها إلا بمثل هذا السير المتئد الهين الرفيق للدراجة الهوائية، فحينئذ توفِّي عينيك حقها من بهاء المنظر وائتلاف اللون، وتوفِّي أنفك حقها من فوح الزهر والنَّوْر، وتوفِّي أذنك حقها من كل صائت طروب، فترجع متخماً بالحُسن الذى أشبعته حواسك! فأنت وإن كنت حضرياً مدنياً لم تسكن الريف ولم تَحُز نصيبًا من ضِياعه وزروعه، فها قد جاورت القوم السكنى، وشاركتهم الزروع والثمار، وأخذت معهم بسهم وافر، لكنك تفردت دونهم بحسن الريف دون مشاقه ومنغصاته، فأي نزهة هي أبهج من تلك؟! وأي رفيق هو خير من دراجتك يدلك على هذا الحسن؟!

واعلم أنك متى صحبت دراجتك في الجد والسعي، أو في النزهة والترويح، فأنت لا تزال في رياضة بغير مدرب، وفي تمرين بغير أجر، وفي ملعب لا يضيق بك، وفي وقت تقبضه وتبسطه كيفما وسعك الجهد، فأنت معها أبدًا في رياضة من غير تكاليف الرياضة، ولا شروط المدربين.

فهل تراني بعد حُسن صنيعها، وعظيم نفعها أستبدل بها؟!