ما زلت أؤمن بأنَّ التعريف الأقرب للديمقراطية هو "حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخر". المجتمعات الديموقراطية في الغرب ذهبت في العقدين الأخيرين إلى أبعد من ذلك، وأصبحت حريتك هي أن تلغي حرية الآخر، وهذا ينسحب على النظام الرأسمالي الديموقراطي الخالص مثل الولايات المتحدة وبريطانيا والنظام الديمقراطي الرأسمالي المطعم بالاشتراكية الاجتماعية مثل فرنسا وألمانيا.

الحرية الفردية صارت مقدسة أكثر من الديموقراطية الجمعية، ومن حق المجتمع والفئات والأقليات في ممارسة طقوسها وثقافتها كما تريد.

ماهية الديمقراطية هي في المجتمعات غير المتجانسة والمركبة من أقليات وفئات وثقافات وإثنيات مختلفة، ونأخذ المجتمع الأميركي مثالاً على ذلك؛ الولايات المتحدة دستورها علماني، إلا أن مجتمعها من أكثر المجتمعات تديناً من جهة، ومن أكثر المجتمعات التي تقدس حرية الفرد إلى حد هدم مسميات أساسية مثل الأسرة والجنس.

هذا التناقض نراه في المجتمعات الأوروبية، والتي تستقبل هجرة كبيرة في العقود الأخيرة، خاصة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والشرق الأقصى من دول فاشلة ومجتمعات فقيرة. المجتمع الأوروبي يزداد عنصرية أو قل تمسكاً بالموروث الأوروبي والتطور التكنولوجي، لكن على حساب الفئات المهاجرة التي لم تستطع الانصهار في الثقافة الغربية الديموقراطية التي تقدس حرية الفرد على حساب الدين والتقاليد. المجتمعات الأوروبية بدأت تتجه إلى اليمين الغوغائي والنازي، أحياناً لأنَّ هذا المجتمع يخشى من ضياع هويته في ظل الهجرة ومجتمع الترف الذي تعيشه شرائح واسعة من الأوروبيِّين.

بالمقابل في الصين وروسيا هناك مجتمعات متجانسة تقريباً، الصين مثالاً، لكنها تعتبر الفرد أحد القطع في الآلة التي تشغل هذا المجتمع في ظل نظام دكتاتوري قمعي يعتقد أنَّ الإنسان وسيلة لبناء الدولة وتقدمها دون الحفاظ على حريته أو الالتفات إلى تطلعاته الفردية أو الثقافية أو الاثنية، حيث نرى محاولات صينية لقمع المسلمين هناك وصهرهم ضمن نظام شيوعي رأسمالي لا يأبه بالإيمان والعقيدة، خلاف الدول الغربية، وفي الهند نرى مسيرة مماثلة ويميناً غوغائياً عنصرياً لا يختلف كثيراً عن الصين وروسيا وبعض دول أوروبا.

إقرأ أيضاً: قراءة في المشهد الإسرائيلي المأزوم

المجتمعات المتجانسة تقمع الآخر والمختلف، وتنتشر فيها ثقافة العنصرية التي تغذيها الدولة التي تعتمد على هؤلاء في جني الثروات وإطعام فئة قليلة من القادة والزعماء، حيث تتركز ثروة الصين العظمى بيد عدد قليل من أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، بينما يقوم أكثر من مليار صيني بالعمل يومياً من طلوع الشمس إلى مغيبها وسط إلغاء الذات والملكية الخاصة، فالإنسان ملك للدولة هناك.

الوضع في روسيا بوتين لا يختلف عن صين تشي، والمجتمع الروسي متعصب دينياً وقومياً، والصراعات الإثنية هناك هي التي تغذي استمرارية حكم بوتين ومجموعته، حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة الحكم الشيوعي التي قامت على نظرية كارل ماركس الاشتراكية الجيدة أساساً والسيئة تنفيذا وممارسة، إذ لا يمكن لأيّ إنسان أن يتخلى عن ذاته لأجل الآخرين حتى وإن كانت الدولة الرحوم.

إقرأ أيضاً: احتمالات الحرب على لبنان وعضلات "أبو عنتر"

في ظل هذا التطور اللافت لأداء المجتمعات المؤثرة في العالم المتطور تكنولوجياً إلى أبعد الحدود التي نعرفها، تبرز الحاجة إلى حل وسط بين الرأسمالية اليمينية الغوغائية وما يقابلها في داخلها من يسار فوضوي، وبين حكم الشخص الواحد والحزب الواحد وقمع الحريات وإلغاء الذات لصالح الدولة.

قد يكون الشرق الأوسط بثرائه المادي والثقافي وتراثه الإنساني والاجتماعي والديني الكبير بوصلة جديدة تؤشر لمسيرة العالم الجديد، الحرية الفردية مقدسة لكنها تنتهي عند حرية الآخر، واحترام الثقافات والمعتقدات والإثنيات والاختلافات وقبول الآخر والمختلف هو مفتاح لكلّ نظام ناجح، سواء أكان جمهورياً أو ديموقراطياً أو ملكياً أو سواه.