لم أعرف بأني سأعيش لأشهد وجود مفوض سامٍ جديد في لبنان بعد جلاء الانتداب الفرنسي في العام 1946 كما تشهد لوحة نهر الكلب. لكنَّ الأيام دائمًا ما تفاجئ المرء بما هو غير متوقّع.

بين خطبة الجمعة للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية، ووزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي الذي زار لبنان في الرابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2024، شهدنا بأمِّ العين وبكل كلمة إلغاءً للدولة اللبنانية ولغالبية الشعب اللبناني، الذي لم تعترف الكلمات الفارسية من على المنبر في طهران، أو المتخلّلة لابتسامات وزير الخارجية الفارسي – المفوض السامي الجديد- على الشاشات من رئاسة الحكومة اللبنانية، وعين التينة حيث رئاسة مجلس النواب، لم تعترف بلبنان كدولة يساندونها في نضالها ضد العدو الصهيوني. بل أكّدت هذه الكلمات على أنَّ لبنان قد تلقّى رصاصة الرحمة الفارسية منذ زمن، وليس هو دولة في نظر السياسة الفارسية، وأنَّ لا شعب مُعترف به من قبل هذه السياسة، إلاَّ من انضوى تحت لوائها.

حتى من اعترفت به الكلمات والخطبة الفارسية قد هانت تضحياته، ولم تتمّ حمايته كما يجب. إذ استحالت منازله إلى رماد، وشُرِّد في الطرقات، وفي مراكز الإيواء حتى حدود نهر لبنان الجنوبي، عِرضةً للأمراض، والبرد القادم، وقسوة الشتاء! وهذا يدفع للتساؤل عن هذه المحبة الفارسية والاحتضان الفارسيّ الذي لم يؤمن للشعب الذي يعترف هو به مراكز إيواء كتلك التي أمَّنها العدو الصهيوني لرعيّته، أو ملاجئ، وغير ذلك من مقوّمات الصمود ليبقى مكرّمًا في أماكن نزوحه كما هو في بيته... والأهم، مدارس قادرة على أن تستمر بالتعليم تحت نير العدوان... فلا يخسر اللبنانيون من أعمارهم مقابل كل يوم سنوات.

لكن الكلمات التي سمعناها على المنبر وعبر الشاشات تسطر وبصراحة أنَّ لا قيمة لأي لبنانيّ في نظر هذا الكيان الذي سيضحّي باللبنانيين جميعًا حتى يحقق مآربه ومساعيه ومخططاته وأجنداته الخاصة... حتى آخر لبنانيّ.

إذ يبدو أنّ اللبنانيين – لا سيّما بعد حادثة البيجر وما تلاها من اغتيالات - لا أهمية لهم إلاَّ في حدود المكتسبات التي يحققونها للفارسيّ على طاولات المفاوضات... فالانكشاف المخابراتي كبير، وحتى للإنسان البسيط الذي لا يعرف في السياسة وأصولها، كانت هذه الوقائع دليلاً على أنَّ البيع قد تمّ... وأنَّ ما تمّت تنشئته بعناية طوال هذه السنوات، أنهي بقرار من عاصمة القرار طهران لأنَّهم "لا يريدون الحرب"، و"هم والأميركان أخوة"... فأين المانع إذًا في أن يتحوّل لبنان إلى أرض محروقة؟ أو إلى غزّة جديدة؟ طالما أنَّ النظام سليم في طهران، وأرضها بعيدة عن الحرب!

إقرأ أيضاً: شهادة... بلون الدم

سبع دقائق ونصف تُبيد إيران فيها إسرائيل... صواريخ باليستية وغيرها، وقدرات ردع عادت مسامعنا منذ سنوات، وزرار يكفي أنْ يضغط عليه المرشد ليمحو إسرائيل.

سبع دقائق ونصف، وقوة ردع، وأزرار، اتضح أنَّها من وحي مسامرات ليالي حبك السجّاد، وأنَّها شعارات تلعب على وتر رغبتنا بتحرير الأرض ونُصرة فلسطين، تستغلّ استبسالنا ومروءتنا وحميتنا وتُهرق دماءنا.

أليس ما يحصل في لبنان، وما بدأ سابقًا في غزّة، سببًا مشروعًا وشرعيًا لتعلن إيران الحرب رسميًا على العدو الصهيوني؟ وتأخذ المبادرة بالضغط على هذا الزرار؟ وتحقيق الدقائق السبع ونصف؟ ألم يحن الوقت لتأخذ إيران "كل ما يلزم" لتكون أرضها كذلك شريكة ما يحصل في أرضنا من أجل القضية التي بنت عليها شرعيتها، ألا وهي تحرير القدس؟ ألم يحن الوقت لتساعد إيران بغير التلويح بإرسال مرتزقة للمساعدة في الحرب على أرض لبنان، وتكرّم أرضها بقدسية المشاركة المباشرة بالحرب من حدودها الداخلية؟!

إقرأ أيضاً: ما ضرّنا لو...

لم يخطئ من قال إنَّ الفارسيّ الذي يُحيك السجّادة بعناية ودقة متناهية لسنوات يصبر فيها على كلِّ ضنى، يبيعها ما إنْ ينتهي منها إلى من يقدّم له السعر الأعلى! وأنَّ حاله في السياسة كحاله في صناعة السجّاد!

طالما نظر الفرس بفوقية إلى العرب، معيّرين إيّاهم بأنَّهم أهل بداوة، وأنَّهم هم أهل حضارة؛ لكنَّ الأيام أثبتت والوقائع أنَّنا نحن العرب أهل البداوة "على اختلاف مذاهبنا" نحن أهل إخلاص وأفعال وملاحم، وأنَّهم هم أهل أقوال وتلوّنات... وأننا نحن أهل حضارة الصدق والرسوخ في الإيمان، وأنَّهم هم أهل التخلّي والطعن بالظهر.