يبرز اسم الدكتور محمد فتحي راشد الحريري كواحدٍ من أولئك الشخصيات الفريدة التي تميزت في العلم والأخلاق، تاركةً بصمةً عميقة في قلوب من عرفوها. وُلِد في بصرة الشام عام 1954، ليبدأ رحلته الطويلة مع العلم والمعرفة. عرفناه عالماً لغوياً وباحثاً في الدراسات الإسلامية، قدّم من خلالها رؤى ومنهجيات خاصة، جعلته نموذجاً يحتذى به في هذا المجال. لم تكن مسيرته محصورة في الأوساط الأكاديمية، بل امتدت إلى قلوب زملائه وطلابه ومتابعيه، فكان مثالاً للمربي والأستاذ والصديق الذي تتجلى في حضوره معانٍ عظيمة من التواضع والسخاء الروحي.

إنجازات الدكتور الحريري تمثلت في مجموعة من المؤلفات القيمة التي لاقت استحساناً كبيراً، منها "سياسة التربية والتأديب في الإسلام"، الذي يُعتبر مرجعاً هاماً في مجاله، و"كيف تكتسب محبة تلاميذك" الذي شكّل نموذجاً في علاقة المعلم بالطالب، و"سعد الدين الجباوي: سيرته وطريقته" الذي تناول فيه حياة وسيرة هذا العالم الجليل، و"الإسرائيليات في تفسير الزهراوين"، و"الطرق الصوفية في حوران"، إلى جانب دراسته حول الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي، الباحث والمفكر. كما أطل على الجمهور من خلال برامج تلفزيونية عديدة، تناول فيها مواضيع تربوية وأدبية وإسلامية، ليضيف إلى سجله بصمة إعلامية تواصلت عبر الأجيال.

عرفته في دبي، ذلك الصديق الذي غمرني بكرمه ولطفه، وجعل من بيته ملتقىً للمثقفين والشعراء والباحثين، وملاذاً آمناً لكل من يبحث عن المعرفة أو يطلب التوجيه. كان كريماً مضيافاً لأبعد الحدود، يفيض بالعطاء، وبيته مفتوح للجميع، وقد جمع في حضوره بين سمو العلم ونبل المعاملة. تلك اللقاءات المتكررة التي جمعتني به، برفقة الدكتور الشيخ أحمد معاذ حقي وأفراد من الجالية الكردية في الإمارات، كانت فرصة لاكتشاف عمق شخصية لا تعرف الحدود بين العلم والإنسانية، إذ دعانا ذات مرة إلى وليمة كبيرة في بيته – فور تعارفنا الاثنين في أمسية شعرية في الشارقة -، وكانت فرصة لالتقاء أبناء الجالية الكردية بأهل درعا. كانت تلك دعوة جمعت أطيافاً متنوعة، أراد من خلالها أن يعزز العلاقة بين الكرد وأهالي درعا، في مشهد يعكس وعيه الكبير بأهمية التواصل بين مكونات المجتمع السوري.

لقد كان الدكتور الحريري بالنسبة لنا ليس مجرد باحث وأستاذ، بل كان صديقاً وأخاً كريماً. يناديني: الخال - ابن العم. كان لطيفاً في تعامله، نبيلاً في أخلاقه، وكريماً في عطائه. في كل مكالمة أو زيارة، كنت أجد فيه تلك الروح الشفافة التي تحتضن الآخر، وتحمل في ملامحها هدوءاً عميقاً وثقة بالعلم والعقل. أبناؤه شاركوني في حب والدهم حين ضموني إلى مجموعة واتساب جمعتنا قرابة سنة، وكأنهم كانوا بذلك يطيلون حبل الوصال الذي حرص الدكتور الحريري على مدّه طوال حياته، ويؤكدون أن روح هذا الرجل لا تزال تسكن في من حوله.

أما منزله، فقد كان، بلا مبالغة، أشبه بمحراب علم وملتقى للأدب والشعر، فيه كانت تُرفع النقاشات العلمية والفكرية، وتلقى فيه القصائد، وتزدهر فيه الحوارات. شعراء وأدباء وباحثون وطلاب، كلهم وجدوا في منزل الدكتور الحريري ما يلبي شغفهم ويشبع فضولهم، وكأنه أراد أن يصنع من منزله بيتاً من بيوت الحكمة، التي كان يبنيها بكل تواضع وإخلاص.

انتسب عن طريقي إلى - رابطة الكتاب السوريين - وبأسف أنني من كتبت نعوته باسم - الرابطة - وكان أحد الحالمين بالعودة إلى سوريا حرة ديمقراطية، من دون حزب البعث وعائلة الأسد المجرم. وظل يكتب للثورة. للسوريين. لأهل مدينته، من دون أن ينقطع عن عمله التعليمي، وعن خدمة ضيوفه في مجلسه اليومي المفتوح، كوجه اجتماعي مهم في دولة الإمارات!

توفي الدكتور محمد فتحي راشد الحريري عام 2022 في دبي، بعد صراع عنيد مع وباء كورونا، الذي كان بالنسبة له اختباراً لثباته وصبره، ورغم كل التحديات، بقي في قلب من عرفه وذاكرة من أحبّه. لقد رحل بعيداً عن وطنه، لكن مواقفه الراسخة من النظام السوري أبت إلا أن تتركه شامخاً، وإن غيّبه الموت عن سوريا، فإن آثاره ستظل شاهدة على مسيرة رجلٍ جمع بين الأخلاق والعلم والإرادة الصلبة.

وبعد رحيله، لم يكن فقدانه مجرد فقدان شخص، بل خسارة للأخ والصديق والعالِم الذي قدّم الكثير ولم يتوقف عند حدود، تاركاً إرثاً يضيء دروب من جاؤوا بعده، ويمنحهم أملاً بأنّ العلماء والمبدعين أمثال الدكتور الحريري، وإن رحلوا، فإنّ علومهم وأفكارهم باقية.


* كتب النص قبل أشهر ولم ينشرفي انتظار ذكراه إلا أنني أثرت نشره تحية إلى روحه الثائرة ضد النظام الدموي