في كل مرحلة عربية مأزومة، يعود التاريخ ليُستدعى لا بوصفه معرفة أو مادة للتأمّل، بل بوصفه حلاً جاهزاً لأزمات الحاضر. وفي قلب هذا الاستدعاء، يبرز اسم معاوية بن أبي سفيان كرمز للحاكم الذي استطاع إخراج الدولة من الفوضى إلى الاستقرار. السؤال الذي يُطرح اليوم ليس بسيطاً ولا بريئاً: هل يحتاج العالم العربي إلى «معاوية جديد»؟ أم أن هذا السؤال يعكس حنيناً إلى السلطة القوية أكثر مما يعكس قراءة نقدية واعية للتجربة التاريخية؟

تولّى معاوية بن أبي سفيان الحكم في مرحلة تأسيسية مبكرة من تاريخ الدولة الإسلامية، عقب سنوات من الصراع الداخلي والانقسام السياسي الحاد. وبغضّ النظر عن التقييمات التاريخية المتباينة لتجربته، لا يمكن إنكار أنه نجح في تثبيت أركان السلطة، وبناء جهاز إداري مركزي، وفرض قدر من الاستقرار بعد مرحلة كادت أن تنتهي بتفكك الكيان السياسي برمّته. من هنا، تحوّل اسمه إلى مرادف لما يُسمّى اليوم «الواقعية السياسية».

غير أن هذه الواقعية لا يمكن فصلها عن سياقها الزمني. فهي ليست براغماتية حديثة تفصل السياسة عن أي اعتبارات قيمية، بل واقعية نشأت في زمن كانت فيه الجماعة السياسية مهدّدة بالانهيار الكامل. لقد قدّم معاوية الاستقرار على الصدام، وإدارة التوازنات على المغامرة، وفضّل الاحتواء على الاستنزاف، وهو ما جعل تجربته قابلة للاستدعاء في أزمنة الاضطراب، لكن أيضاً قابلة للنقد.

في الواقع العربي المعاصر، يبدو هذا الاستدعاء مفهوماً نفسياً وسياسياً. فدول تعاني من ضعف مؤسساتها، وتآكل شرعيتها، وصعود الهويات الفرعية على حساب الدولة الوطنية، تجعل فكرة «الحاكم القوي» مغرية لكثيرين. غير أن الإشكالية تبدأ حين يتحوّل هذا الحنين إلى تبرير للاستبداد، وحين يُستدعى التاريخ ليغطي عجز الحاضر عن إنتاج نموذج حكم مقنع.

في المخيال السياسي العربي اليوم، يُوظَّف معاوية بطرق متناقضة. فتيارات سلطوية تستحضره بوصفه نموذجاً للحاكم الذي يفرض النظام ويُخضع المجتمع باسم الاستقرار. في المقابل، ترى فيه قراءات واقعية مثالاً على الإدارة العملية للأزمات بعيداً عن الشعارات الكبرى. وهناك أيضاً قراءات نقدية تعتبر أن تجربته مثّلت انتقالاً من منطق المشاركة السياسية الواسعة إلى منطق السلطة المركّزة، وترى في هذا التحوّل أحد الجذور المبكرة لأزمة الشرعية في التاريخ السياسي العربي.

ويُلاحظ أن استدعاء معاوية لا يأتي غالباً من الشارع العام، بل من النخب السياسية والفكرية الباحثة عن مبرّرات نظرية للأزمات الراهنة. هذا الاستدعاء النخبوي يكشف في عمقه عجزاً عن تطوير خطاب سياسي معاصر قادر على الإجابة عن أسئلة الدولة الحديثة، فيلجأ البعض إلى التاريخ لا كمرجعية فحسب، بل كبديل عن مواجهة سؤال: كيف نبني دولة قوية دون أن تتحوّل إلى سلطة قمعية؟

وعند وضع تجربة معاوية في إطار مقارن، مع تجارب شخصيات مثل أوتو فون بسمارك في ألمانيا أو مصطفى كمال أتاتورك في تركيا، تظهر الفوارق بوضوح. فهؤلاء، بالرغم من نزعتهم السلطوية في مراحل معيّنة، عملوا على بناء مؤسسات حديثة قادرة على الاستمرار بعد غيابهم. أما الاستقرار الذي تحقّق في التجربة الأموية، فبقي مرتبطاً بدرجة كبيرة بالشخص والعائلة، ما جعله استقراراً هشّاً وقابلاً للاهتزاز مع تغيّر موازين القوة.

وهنا نصل إلى التناقض المركزي الذي تطرحه تجربة معاوية: الاستقرار مقابل الشرعية. لقد حُلّ هذا التناقض في العصر الأموي لصالح الاستقرار، في لحظة كانت فيها الدولة الناشئة على حافة الانهيار. أما في العصر الحديث، حيث الدولة الوطنية فكرة راسخة، والمشاركة الشعبية مطلب أساسي، فإن التضحية بالشرعية لم تعد طريقاً للاستقرار، بل أصبحت وصفة لانفجار مؤجّل. فالدولة التي تفتقر إلى قبول اجتماعي واسع قد تبدو قوية في ظاهرها، لكنها تكون ضعيفة في بنيتها العميقة.

من هنا، يصبح التفريق ضرورياً بين معاوية كمؤسّس لمشروع دولة، ومعاوية كنموذج لحكم فردي قائم على الذكاء الشخصي والدهاء السياسي. العالم العربي اليوم لا يحتاج إلى حكّام أذكياء فحسب، بل إلى مشاريع دولة مؤسّسية تضمن الاستمرارية وتمنع انهيار الدولة بزوال الأفراد. فالمؤسسات، لا الأشخاص، هي الضمانة الحقيقية للاستقرار طويل الأمد.

في المحصّلة، لا يكمن الحل في البحث عن «معاوية جديد»، بل في فهم الدرس الأعمق من تجربته. فالاستقرار ضرورة، لكنه لا يكون دائماً إلا إذا كان مؤسّسياً، والواقعية السياسية لا تعني إلغاء القيم، بل إدارتها بوعي. العالم العربي لا يحتاج إلى استنساخ الماضي، بل إلى قيادة تتعلّم منه دون أن تعيش فيه. فالتحدّي اليوم ليس في إيجاد معاوية جديد، بل في ابتكار نموذجنا الخاص للدولة القوية المستقرة، القادرة على احتواء تناقضات الحاضر بدل الهروب إلى أوهام الماضي.