عرض يستحقّ الكثير من التصفيق والإعجاب قدّمته المخرجة، والمؤلّفة، والممثّلة المسرحيّة الروسيّة أولغا كوسترينا بعنوان "ديلمّا" (معضلة) ضمن فعاليات مهرجان الفجيرة الدولي للفنون بدورته الأولى. مونودراما مدهشة إنتزعت خلالها الفنّانة الروسيّة صاحبة اللياقة البدنية العالية جداً الآهات من صدور الجمهور الذي صفّق لها طويلاً.


&
&سعيد حريري من الفجيرة:
يستمرّ جمهور مسرح جمعية دبا الفجيرة للثقافة والإعلام بإبهار الجمهور المتذوّق لفنّ المونودراما، ولكنّ تذوّق العرض الروسيّ كان مميّزاً جداً لدرجة أنّه نال إستحسان وثناء كلّ من حضره.
عرض يجمع ما بين المسرح الجسدي، والرقص المعاصر، والألعاب البهلوانيّة، وفنّ التمثيل الإيميائي، والسيرك أيضاً. وهو عبارة عن حيثيّة فلسفيّة تعبّر بالحركة عن الحالات العقليّة التي نمرّ بها: الشعور بالوحدة، واليأس، شخصنا المفقود في متاهة من مخاوفه، الصراع الأزليّ بين الأبيض والأسود، والإختيار الواعي للجهة التي نقرّر أن نذهب بإتّجاهها.

ينقسم المسرح إلى قسمين بواسطة أقمشة بيضاء وسوداء ورموز. من جهة هناك رمز أبيض يشير إلى الحركة، والحياة، والشمس، والضوء، والرفاهيّة، ومن جهة أخرى دائرة سوداء ترمز إلى الثبات والخلود.
منذ البداية، يقف الشخص على تقاطع طرق مواجهاً لخيار ما، معصوب العينيْن، وكأنّه لا يريد أن يرى الحاجة للخيار، متحركاً عبر اللمس، كالطفل تماماً.

تثير أولغا بمشهديّتها هذه شحنة كهربائيّة من المعاناة، وهذه الأخيرة ليست أكثر من نتيجة لعمى البشر. صراع المبادئ التي لا يمكن التوفيق بينها يصل إلى ذروته مولّداً شعوراً من الألم الجهنميّ، ومن الحتميّة الكاملة في النهاية.

في الجزء الأوّل من العرض تستكشف بطلة العرض الجانب المظلم من الفضاء، فتتحوّل إلى رقّاص الساعة الذي يقيس وقت الحياة بدون إمكانيّة للتوقّف، مدمّراً كلّ شيء لا لزوم له، بما في ذلك كلّ الدوافع والطموحات. ليس هناك سوى الوقت، ليس هناك سوى الموت. يمكننا أن نرى عالماً فانياً ومحدوداً، ودائرةً من الموت. نراها كطير أسود وكإمرأة في عباءة سوداء. وخلال الآداء، ندرك فنّ المأساة الغربيّة، وفنّ الإحتفال بالحياة على خلفيّة الموت الوشيك. إنّها الرحلة إلى السفل.

تنتقل بعد ذلك إلى الجزء الأبيض من المسرح. نرى شريطاً أبيضاً، وكأنّه ضمّادة، تُشفى الجروح بعد رحلة على أجنحة الموت، ويُخترق كلّ شيء بالضوء والنور. تضرّع، وتأمّل في الأشياء والمظاهر التي لا تنضب، ولا حدود لها. هذا ليس الغرب بالفعل، ولكنّه الشرق – إنّه فنّ التأمّل العميق.

ترسم كوستيرينا بأكسسواراتها المسرحيّة علامة اللانهاية، ولكنّها عندما تقترب من اللانهاية ومن الضوء، لا يمكنها البقاء هناك. توقظ حينها طبيعتها الحيوانيّة، وحيويّتها، وعواطفها الفطريّة، وغرائزها، ورغباتها. وصعودها إلى النور، يردّها إلى الأسفل نحو مصدر كلّ الكائنات الحيّة. يتحرّك جسدها بلياقة عالية ومدهشة تصل إلى حدود الغرابة أحياناً، كما لو أنّها كانت مخلوقاً قديماً، أو سحليّةً، أو حشرة.

يتجمّد الجسد بأوضاع مختلفة: بعضها قريب من المبادئ الروحيّة، وبعضها الآخر يصوّر الغرائز الحيوانيّة. محاولتها لفهم طبيعتها المتعدّدة الطبقات تنتج عن فصل. القدميْن واليديْن يهيمون في الفضاء، ويحملونها إلى إتجاهات مختلفة، غير مطيعين لإرادتها. وفي ذروة هذه التجارب تتحرّر من عماها.&


&وفجأة، ينبت برعم صغير من حبوب صغيرة في الأرض، فتتحوّل إلى زهرة يمايلها النسيم. نشاهد حياة الوردة من الولادة حتّى الموت. وفي هذه الحياة لوردة عاديّة يجد الجميع حياتهم، وحياة كلّ شيء على هذه الأرض. ولكنّ في مكان موت الوردة، نرى في تلاشيها برعماً جديداً يستعدّ للظهور.

قدّمت كوسترينا في عرضها كلّ ما يمكن لجسد بشريّ أن يفعله ليعبّر عن الأفكار مسرحياً، لم تترك إيماءة من وجهها، أو حركة من كلّ عضلة من عضلات جسدها إلاّ وإستفادت منها لتجسّد هذا التضارب في الأحاسيس والأحداث. فنّانة خارقة قدّمت عرضاً أكثر من خارق مستعملة جسداً إذا وُصف بالخارق لا نفيه حقّه بالفعل.

وكختام للعرض، ترقص أولغا بحرفية بارعة، وبليونة فاتنة، وفي يديها شريط أبيض، وآخر أسود، لتعبّر لنا بأنّ مبدأين أساسيْن يتحالفان، وينسجان معاً الطبيعة البشريّة.

لمشاهدة مقتطف من العرض:&

DILEMMA Part I from Olga Kosterina on Vimeo.