عندما ذكر المؤرخ العربي ابن عبد الحكم في كتابه "فتوح مصر والمغرب" في القرن التاسع الميلادي، في معرض حديثه عن "النيل"، أن لدى المصريين عادة إلقاء فتاة جميلة في مياهه لاسترضاء النهر كي يفيض ويعم عليهم بالخير في شتى مناحي الحياة اليومية، لم يتصور أنه بعد نحو ما يزيد على ألف عام من تاريخ كتابته لهذه القصة أنها ستكون مصدر إلهام لإنتاج فيلم سينمائي يحمل نفس الاسم "عروس النيل"، وأنها ستُطبع في أذهان كثيرين دون بحث أو تدقيق.
تدور أحداث الفيلم، الذي أنتج في عام 1963 وأخرجه فطين عبد الوهاب، في قالب رومانسي كوميدي، إذ يذهب مهندس جيولوجي إلى مدينة الأقصر في صعيد مصر للتنقيب عن البترول، وتواجهه صعوبات نظرا لأن المنطقة كان المصريون القدماء يستخدمونها مقبرة لـ "عرائس النيل"، ويرى المهندس فتاة جميلة في زي عروس النيل تدعى "هاميس" تطلب منه وقف عمليات التنقيب، وتخبره بأنها ابنه الإله آتون، وأنها آخر "عروس للنيل"، وقد أرسلها والدها إله الشمس إلى الأرض مرة أخرى لتمنع انتهاك حرمات مقابر عرائس النيل.
أصبحت تلك الأسطورة، لاسيما بعد تقديمها على شاشة السينما، من أبرز الأساطير التي روّجت عن علاقة المصريين القدماء بنهر النيل، والتي تقول إنهم كانوا يلقون بعروس جميلة عذراء، ترتدي أفخر الثياب والحلي، ويزفونها إلى نهر النيل، بعد أن يلقونها حية لتبتلعها المياه، وأن هذا التقليد أصبح متواترا للوفاء بفضل النيل على أرض مصر. فما هي قصة الأسطورة والرد عليها من وجهة نظر علماء دراسات تاريخ مصر القديم.
القصة كما رواها بن عبد الحكم
ذكر هذه الأسطورة المؤرخ العربي أبو القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الحكم المتوفى في عام 871 ميلاديا، أي بعد دخول العرب مصر بنحو 200 عام، وذكرها في كتابه الشهير "فتوح مصر والمغرب" وخلاصة ما يقوله بن عبد الحكم إن "عمرو بن العاص لما فتح مصر، أتى أهلها إلى عمرو حين دخل شهر بؤونة (القبطي) فقالوا له: أيها الأمير إن لنيلنا سُنّة لا يجري إلا بها. فقال لهم: وما ذاك؟ ... قالوا: أنه كلما جاءت الليلة الثانية عشرة من هذا الشهر، عمدنا إلى جارية بِكر من أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل".
وأضاف بن عبد الحكم: "فقال لهم عمرو: هذا لا يكون في الإسلام، وأن الإسلام يهدم ما قبله .. فأتوا شهر بؤونة وأبيب ومسري (شهور قبطية) والنيل لا يجري قليلا ولا كثيرا حتى هموا بالجلاء... فلما رأى عمرو ذلك كتب إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه عمر أن قد أصبت، أن الإسلام يهدم ما قبله، وقد بعثت إليك ببطاقة فألقها في النيل إذا أتاك كتابي".
- هل آمن المصريون القدماء بـ "إله واحد أحد" قبل الأديان السماوية؟
- قصة مسلة مصرية تحتفل أمامها فرنسا كل عام بعيدها الوطني
ويتابع بن عبد الحكم :"فلما قدم الكتاب إلى عمرو فتح البطاقة فإذا فيها: من عبد الله أمير المؤمنين إلى نيل مصر. أما بعد، فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك. فألقى عمرو البطاقة في النيل، وكان أهل مصر قد تهيأوا للجلاء والخروج منها، لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل ... وأصبحوا وقد أجراه الله تعالى ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة".
لم يذكر هذه القصة بعض المؤرخين والرحّالة والجغرافيين العرب الذين زاروا مصر، من أمثال المسعودي في مروج الذهب ومعادن الجوهر (956 ميلاديا) والكندي في فصائل مصر (961) وناصر خسرو في سفرنامه (1061) وابن جبير في تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار (1183 ميلاديا) وعبد اللطيف البغدادي في الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر (1194 ميلاديا)، وجميعهم تناولوا وصف مدن مصر وأحوالها بعد ابن عبد الحكم، ولم يذكروا هذه الأسطورة عند حديثهم عن النيل، على الرغم من إقامتهم في مصر وسط أهلها.
ويقول فريق من المؤرخين إن فكرة "عروس النيل" ربما تعود إلى تقديس المصريين للنيل وتشييد التماثيل المختلفة له، فضلا عن عادة إلقاء الحلي والقطع الذهبية تكريما لهذا النهر، بينما يقول آخرون إن المصريين كانوا يلقون دمية مصنوعة من الذهب أو البرونز أو الفخار كل عام في وقت الفيضان كهدية للنيل حتى تكثر خيراته، ومن هنا حدث الخلط.
والواقع أن القصة لا أساس لها من الصحة بالنظر إلى ما خلفه المصريون القدماء من آثار، لا سيما "مقاييس النيل"، في عدة مواقع كانوا يسجلون بها درجات ارتفاع منسوبه أو تراجعه، ولا تزال بعض هذه الدرجات مسجلة على أعمدة معابد مثل الكرنك وادفو وصخور أسوان، فلو أنهم كانوا يلقون عروسا في النيل ليفيض لأشاروا إلي ذلك ضمن ما نقشوا على آثارهم من أحداث السنين والمجاعات التي أصابتهم بسبب تراجع منسوب النهر.
كما لم يتحدث شعراء وكتاب مصر القديمة إطلاقا في قصائدهم وكتاباتهم الأدبية عن "عروس النيل"، كما أن أخبار الفيضان ووصف الاحتفال به تخلو تماما من أي إشارة إلى هذا القربان البشري.
قرابين وشعائر دينية للنيل
دأب المصريون على تقديم القرابين في الممارسات الدينية، وكان لكل قربان مهام محددة، وتلفت العالمة الفرنسية سيلفي كوفيل في دراستها "قرابين الآلهة في مصر القديمة" إلى تصورين لفكرة تقديم القرابين، أولها ترتبط بالعطية والهبة العظمى للكل، والتي تعبر عن عودة الحياة وتجديدها وقوتها، وثانيها تقوم على فكرة تقديمها للثبات وحفظ النظام.
وتقول: "بالنسبة للقربان المقدم للإله فهو ثابت على مر العصور، وهذا التبادل الثابت بين الإنسان والإله يحدث في إطار من السعادة المتصلة، مع تقديم قرابين الخبز أو الزهور".
وتضيف كوفيل: "يظهر النيل في جميع المشاهد، إذ يمكننا بسهولة تخيل المواكب التي تمر فيه، ورحلة المركب الإلهية، وعملية التطهير وكذلك الابتهاج والتهلل بمجيء الفيضان. كما تضمن العديد من المحاصيل السنوية وفرة الغذاء والرخاء لهذه الأرض السوداء (كيمت) وهي المنطقة الخصبة التي يرويها النيل سنويا".
وتشير كوفيل في دراستها إلى اللوحات الدالة على القرابين والمعبودات في عصور متأخرة، والتي لا تذكر أي قرابين بشرية، فعلى سبيل المثال توجد قرابين الخبز، ودمج قرابين (الخبز مع الأوز، البخور والنسيج)، وقرابين منتجات الأرض (الزهور والحبوب والبلح)، قرابين الحلي والتمائم المختلفة، فضلا عن قرابين أخرى تمثلت في ذبح بعض الحيوانات.
ويقول العالمان الفرنسيان، ماري-أنج بونهيم ولوقا بفيرش، في دراستهما "عالم المصريين" إن الملك، إلى جانب الأعمال التقنية للتحكم في مياه الفيضان، كان يحرص على إقامة "طقوس لفظية وشيّد المعالم الأثرية من أجل مياه النيل الآخذة في الارتفاع وللآلهة المحلية الكبيرة وهي في تجلياتها".
ويلفتان إلى إقامة ترتيبات لطقوس دينية ورد ذكرها في "الترنيمة إلى النيل" في جبل السلسلة، وهو ممر ضيق ينساب منه النيل شمالي أسوان: "كانت هذه الترتيبات تقتضي إلقاء بعض القرابين في نهر النيل، بغرض تحفيز قدوم الماء والحفاظ عليه، بيد أن المظاهر المادية الخاصة بترتيبات الطقوس الدينية من أجل الفيضان شحيحة، ولا نعرف معبدا واحدا مكرسا للإله حعبي (إله النيل)، ولا تمثالا واحدا مخصصا لهذه الشعائر".
هل قدم المصريون "قرابين بشرية"؟
ظلت أسطورة عروس النيل تروى على مدار ما يزيد على ألف سنة وترسخت حتى تناقلتها الأجيال كموروث شفهي عن ابن الحكم في مؤلفه، كما استلهمها أمير الشعراء أحمد شوقي وذكرها في قصيدة عن النيل تبدأ بأبيات "من أي عهد من القرى تتدفق/وبأي كف في المدائن تغدق... (إلى أن يقول ) في كل عام دُّرة تُلقى بلا ثمن/ وإليك وحُرّة لا تصدق)".
وعلى الرغم من عدم ذكر النصوص المصرية القديمة لهذه الأسطورة، يؤكد المعتقد الديني المصري القديم عدم تقديم قرابين بشرية على الإطلاق لأي إله، وهو ما تعززه لوحات وبرديات تصف النيل وفيضانه وأزماته، وجميعها لم يرد فيها أي ذكر لـ "عروس النيل" العذراء التي تُقدم كقربان للنيل.
- مصر القديمة: هل كانت زيارة شامبليون لمصر سببا في وفاته مبكرا بمرض غريب؟
- الحضارة المصرية: كيف ساعدت اللغة القبطية شامبليون في معرفة أسرار الكتابة "الهيروغليفية"؟
ويقول العالم المصري رمضان عبده علي، في دراسته بعنوان "حضارة مصر القديمة": "عُثر على ثلاث لوحات تصف كل منها بالتفصيل جميع المراسم التي كانت تقام والأشعار والأغاني التي كانت تُلقى في الاحتفالات التي كانت تقام لدعوة النيل إلى الفيضان والإتيان بالخير الوفير، وكانت في الغالب تأخذ طابعا دينيا وشعبيا، وترجع هذه اللوحات إلى عهد الملوك، رعمسيس الثاني، ومرنبتاج، ورعمسيس الثالث".
ويضيف: "من هذه اللوحات يتضح لنا أن الملك كان يحضر بنفسه هذا الاحتفال الرئيسي الذي كان يبدأ عادة بذبح عجل أبيض وأوز وبط ودجاج كقربان، ثم تُلقى في النيل (رسالة) مكتوبة على ورق من أوراق البردي، تتضمن بعض الدعوات والمدائح في النيل، اعترافا بفضله وابتهالا له لمواصلة الفيضان في كل عام بما فيه خير للبلاد".
ويطرح عبده علي تساؤلا: "لو كان المصريون القدماء يقدمون للنيل عروسة حية، فهل كان من الممكن عدم ذكر ذلك وإغفاله في تلك اللوحات التي تركها هؤلاء الملوك الكبار".
كما عُثر على العديد من التراتيل والدعوات المكتوبة التي كانت ترفع إلى النيل أو تلقى فيه، وخصوصا حين يأتي الفيضان منخفضا ومهددا بالمجاعة، ولم يذكر أي نص من هذه النصوص أن عروسا قد أُلقيت في النيل على سبيل التضرع.
كان النيل نفسه محل تقديس لدى المصريين القدماء، وسموه "حعبي" وكان يرمز إليه في هيئة جسم ممتليء وتظهر ملامحه سمات النيل والغنى، وتوجد مجموعة من التراتيل التي كان يرددها الكهنة والناس في مدح النيل "حعبي" لبيان قدرته وأفضاله على الناس.
كانت هذه التراتيل تُقال في مناسبات الاحتفالات بالفيضان، ويوجد جزء من هذه التراتيل في بردية تورينو وأيضا في برديات في المتحف البريطاني، سالييه وانستاسي وشستربيتي، وجميعها مؤرخة من الأسرة الـ 19، بحسب تقسيم تاريخ مصر القديم، ويرجح العلماء أنها نُسخت من أصل يرجع إلى عصور أقدم.
نرصد في هذه التراتيل ثلاث صور للنيل وفيضانه، تصف لنا الصورة الأولى حالة الناس، والحالة العامة عند مجيء الفيضان، وتصف لنا الصورة الثانية كيفية احتفال الناس به، وتصف لنا الصورة الثالثة حالة الناس إذا جاء الفيضان منخفض المنسوب.
ويورد عبده علي نص بردية تورينو، ونجد في الصورة الأولى :"أنه (النيل) هو الذي يروي المراعي، وهو المخلوق من رع ليغذي كل الماشية، وهو الذي يسقي الأراضي الصحراوية البعيدة عن الماء، فإن ماءه هو الذي يسقط من السماء ... وهو الذي يأتي بالقوت، وهو الذي يكثر الطعام، وهو الذي يخلق كل شيء طيب... هو الذي يسعد الإنسان ويجعله يحب أخيه".
ويقول العالم الفرنسي جاك فيركوتير في دراسته "مصر القديمة"، إن المصريين لاحظوا أن الفيضان واهب الماء والتربة معا، وهو ما دفعهم إلى تقديس النيل، ونظموا له ترانيم خاصة، تكريما له.
ويورد في دراسته هذا النص: "تحية لك يا حعبي، أخرج من هذه الأرض، واحضر لتهب مصر الحياة، إنك تخفي مجيئك في الظلمات (كان المصريون يجهلون موقع منابع النيل) .. وتغطي مياهك البساتين .. أنت واهب الحياة لكل ظمآن، عندئذ ارتفعت أصوات الأرض مهللة، البطون فرحة في سعادة، والظهور تهتز من الضحك".
ونجد صورة أخرى في برديات المتحف البريطاني، بحسب دراسة "تاريخ الحضارة المصرية القديمة"، ألفها نخبة من العلماء: "عندما تفيض (أيها النيل) يقربون لك القرابين، وتُذبح لك الماشية، ويقام لك احتفال كبير، وتُسمن لك الطيور ويصيدون لك الغزلان من الصحراء، ويكافئك الناس بكل ما هو طيب .. أنت مزدهر، أيها النيل، أنت مزدهر، فالنيل هو الذي يجعل الإنسان يحيا من خير ماشيته، وتعيش ماشيته على المراعي".
كما تحتفظ لنا بردية هاريس من عصر الملك رعمسيس بقائمة من القرابين من جميع الأنواع والحيوانات والفواكه والغلال والنباتات والزهور، خُصصت جميعها للمعابد، وفي نهاية القائمة، نجد ذكرا لتماثيل لـ "حعبي" النيل، من الذهب، والفضة والأحجار الكريمة، وكل القرابين مع التماثيل التي كانت تُلقى في النيل مع ما يسمى بـ "كتب النيل"، وهكذا تذكر بردية هاريس الطقس عن طريق التماثيل، التي أحيانا تكون على هيئة المعبود "أوزير".
ويتحدث العالم الفرنسي بول بارجيه في دراسته "كتاب الموتى للمصريين القدماء" في الفصل 125 بحسب بردية نو نافيل تأكيدا على لسان المصري القديم في اعترافه في العالم الآخر عند دخوله إلى صالة ماعت (معبودة العدل) إذ يقول: "لم أسبب ألما. لم أتسبب في جوع أحد. لم أتسبب في بكاء أحد. لم أقتل. لم آمر بقتل أحد. لن أتسبب في ألم لأحد"، وهو نص يؤكد نوع من الحرص الديني لدى المصريين على عدم القتل أو التسبب في ألم شخص آخر أمام الإله.
"تنفير المصريين من عقائدهم القديمة"
يذكر عبده علي في دراسته أنه راجع 11 نصا عن فضل الفيضان، كان من بينها ثمانية نصوص من العصر البطلمي، وذكرها في دراسته "تاريخ مصر القديم"، من بينها بردية في نيويورك على لسان المعبود "تحوتي": "إنني أجعل الفيضان يأتي فأخصب الحقول وأجعل المعبودات والناس يعيشون"، وعلى لوحتي المطاعنة وقفط، من عصر الملك طهرقا، نقرأ في السطر 10: "طلب جلالتي نيلا (مرتفعا) من والده آمون رع، سيد عروش الأرضين حتى لا يسمح بحدوث مجاعة في عصره".
وفي بعض النصوص من العصر البطلمي من معابد (إدفو وإسنا ومدامود) نقرأ، بحسب عبده علي: "(الملك بطليموس) يأتي إليك من مونتو-رع، سيد طيبة ... ويحضر لك نيل الجنوب مع كل ثروته الطيبة، (هو) الذي يأتي في موسمه كل عام ويزود مائدة قرابينك بالأغذية والمؤن، لكي يعيش قلبك إلى الأبد".
كما جمع العالم الفرنسي جاك فاندييه في دراسته بعنوان "المجاعة في مصر القديمة" عددا كبيرا من النصوص المختلفة، المنقوشة على لوحات أو مقابر أو توابيت وحتى المعابد البطلمية، يصل عددها إلى ما يزيد على 50 نصا، لم يأت ذكر لأي عروس للنيل في نصوص هذه المصادر.
كما بحث فاندييه في النصوص المكتوبة باللغة القبطية، لاسيما التعبيرات التي تعني كلمة "مجاعة"، ووجد منها خمس نصوص، وهي تخلو أيضا من أي ذكر لعروس أو تضحية بشرية للنيل في حالة انحسار الفيضان.
ويرى عبده علي في دراسته أن ابن عبد الحكم كتب هذه القصة بعد دخول العرب مصر في سنة 640 ميلاديا، وفي توقيت كان المصريون قد اعتنقوا المسيحية التي "لا تقبل أو تقر قصة إلقاء عروس بكر حية لتموت غريقة في النيل".
ويضيف: "كتب ابن عبد الحكم هذه القصة بعد دخول العرب مصر بنحو 230 سنة، فإما أن تكون هذه القصة قد رويت له بمعرفة أحد المخرفين، وإما أن تكون حكاية برمتها من تأليفه هو، بقصد تنفير المصريين من مظاهر حضارتهم وعقائدهم القديمة والدعوة إلى الإسلام".
ويقول عبده علي نقلا عما ذكره عبد الحميد زايد في دراسته "مصر الخالدة": "قصة إلقاء فتاة في النيل، التي رواها المؤرخ العربي ابن عبد الحكم لا تعدو أن تكون أكذوبة من الأكاذيب المدعاة على مصر القديمة أو سوء فهم لبعض ما قام به المصريون عند الاحتفال بوفاء النيل في قصة عروس النيل، فهي قصة غير معقولة، وواضح فيها الاختراع والتلفيق، فنحن لا نعرف عن المصريين القدماء عادة التضحية البشرية".
كما وصف العالم الفرنسي إدم فرانسوا جومار، أحد علماء الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801) في دراسته "وصف مدينة القاهرة وقلعة الجبل"، ضمن دراسات موسوعة وصف مصر، ما وصل إليه عن قصص عن عادة المصريين في الاحتفال بالنيل قائلا: "عند الاحتفال كان يقام في وسط مجرى الخليج ... كتلة من الطين غير محددة الشكل تسمى (عروس) تُقذف في الماء أو على الأحرى تقلبها المياه عند فتح السد".
ويضيف: "نظر جميع الرحّالة تقريبا إلى هذه العادة، كما لو كانت، على هذا النحو، تقليدا موروثا لقربان آدمي، أو نوع من الفأل يُعزى إلى السكان القدماء، ولكن لم تُقدم إطلاقا أدلة إيجابية على هذه العادة القديمة، ولا عن التغيير الذي جرى على هذا التقليد".
ويقول جومار: "هذا التقليد مليء بالغموض والشك، ولذلك، فإنه يجب علينا، فيما أظن أن نهمل هذه القصة المزورة".
ويؤكد العالم المصري عبد العزيز صالح في دراسته "حضارة مصر القديمة وآثارها" أن المصريين لم يعتمدوا على المصادفة في حياتهم على الإطلاق بل "عرفوا كيف يحفرون الترع لتوصيل مياه الفيضان إلى أقصى ما يستطيعون استغلاله من الأرض السوداء الخصبة، وكيف يشقون المصارف لتصريف ما يزيد على حاجة أرضهم من المياه الراكدة".
وتلفت كلير لالويت في دراستها "الفراعنة في زمن الملوك الآلهة" إلى أن المصري القديم استطاع شق القنوات التي قد تساعد على ري التربة ريا عقلانيا و"هكذا استطاع أن يسيطر على الفيضان بفضل عمل صبور ومستمر، وليطبع الأراضي المخصبة بطابع إنساني".
وتضيف: "من أجل ضمان فاعلية مجموع هذه المنظومة الجديدة (من القنوات)، كان الأمر يحتاج إلى تنسيق بين كافة ملاحظات مقاييس النيل، والوقوف على توزيع القنوات في المستقبل على امتداد الوادي".
ويؤكد فيركوتير ما أشارت إليه لالويت أن "معجزة مصر هي أن النيل هو الذي قدّم الماء، والتربة التي يمكن استزراعها، وما عدا ذلك فيعزى إلى الإنسان".
ويضيف: "قد نندفع بسرعة وبسهولة، ونتحدث عن الظروف الفريدة التي توافرت للحياة على ضفاف نهر النيل وننسى أن هذه الظروف قد خلقها الإنسان بفضل نظم الري. ولا شك أن مصر هي (هبة النيل) كما ظل الناس يرددون منذ أيام هيرودوت، بيد أن مصر هي من خلق البشر، أولا وأخيرا".
- كيف كان المصريون القدماء يقدسون نهر النيل؟
- أسرار الحب والعشق في مصر القديمة
- لصوص الفراعنة الذين خربوا مقابر الملوك
- قصة شم النسيم الذي يحتفل به المصريون منذ آلاف السنين
- حياة العمال وحقوقهم في مصر القديمة
- الزواج وحقوق المرأة في مصر القديمة
- كيف صور الرحالة والمستشرقون في الغرب حياة المرأة المصرية؟
- رحلة المومياوات الملكية من الموت إلى "الخلود" في مصر القديمة
التعليقات