لم يهدأ بعد السجال حول الملاكمة الجزائرية إيمان خليف، فيما تسير بخطىً ثابتة نحو المنافسة على ذهبية الملاكمة يوم الجمعة في أولمبياد باريس 2024.
ووصلت القضية إلى مجلس الأمن، الأربعاء، حين أشار ممثل روسيا إلى إيمان على أنها "رجل"، وذهب إلى ربط مشاركتها في الألعاب الأولمبية بـ"مخطط غربي".
ورد منسق البعثة الدائمة للجزائر إلى الأمم المتحدة توفيق كوردي: "استمعنا إلى إشارة ضمنية لكنها كانت موجهة بوضوح إلى رياضية بطلة من بلادي، أود أن أؤكد ما يلي: إن الملاكمة الشجاعة إيمان خليف ولدت أنثى، عاشت طفولتها بنتاً يافعة، ومارست الرياضة كامرأة بكامل المقاييس".
وكان ممثل اللجنة الأولمبية مارك آدمز قال تعليقاً على السماح لخليف بالمنافسة أنها "وُلدت أنثى، وهي مسجلة أنثى، وعاشت حياتها كأنثى، وتُلاكم كأنثى، ولديها جواز سفر أنثى".
لكن النقاشات على مواقع التواصل الاجتماعي لم تهدأ، إذ يتساءل البعض عن مستوى هرمون التستوستيرون لديها، في حين يصفها آخرون بأنها "رجل" أو يدّعي أنها "عابرة جنسياً".
قضية خليف ليست مجرد نقاش حول قواعد رياضية، بل مشهد من معركة سياسية أكبر في حروب الثقافات، والمواقف المتضاربة من القبول الاجتماعي والتعريفات المتغيرة للهوية.
السجال هذا فتح باباً واسعاً لنقاش النوع الاجتماعي في المنافسات الرياضية، ولكنه أيضاً أظهر مدى الاستقطاب الاجتماعي والسياسي حول هذا الموضوع.
اللافت كان مشاركة سياسيين وشخصيات عامة مؤثرة في الهجوم على خليف والتشكيك بأحقيتها بالمشاركة في المنافسات النسائية. هذا الهجوم لم يكن مجرد تعبير عن رأي شخصي، بل هو جزء من خطاب شعبوي يتنامى، يستخدم قضايا النوع الاجتماعي كميدان للصراع الأيديولوجي.
شارك الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، وكاتبة سلسلة "هاري بوتر" جاي كاي رولينغ، والملياردير إيلون ماسك، في تأجيج حملات ضد خليف. هذه الشخصيات العامة التي تمتلك تأثيراً واسعاً على الرأي العام، لم تتوانَ عن استخدام هذه القضية لتسويق إلى أجنداتها السياسية المحافظة.
تحالف أيدولوجي
تعدّ الرياضة من أبرز الساحات التي يُعبّر فيها السياسيون عن مواقفهم بشكل يُراعي حساسية الجمهور، ولكن بلغة شعبوية تضفي بُعداً من البساطة والتحدي.
وبات هؤلاء القادة يدركون أن الرياضة توفر منصة مثالية لعرض أفكارهم، لأنها تجمع بين شغف الجماهير ورغبتها في رؤية نماذج أو أبطال يحتذى بهم.
في هذا المشهد، تتحول قضايا رياضية إلى منابر لمواقف أيديولوجية، حيث يستخدم الساسة لغة تستهدف عواطف الناس وتخاطب مخاوفهم واهتماماتهم الآنية.
انتقاد ترامب لمشاركة خليف، عبر منصة "تروث سوشال"، ينسجم مع استراتيجيته الأوسع في تعزيز قاعدته الشعبية المحافظة، خاصة في ظل ما يعرف بـ "حرب الثقافات" في الولايات المتحدة.
ترامب، الذي له تاريخ في استغلال القضايا الثقافية لتعزيز شعبيته، يبدو أنه يرى في هذه القضية فرصة أخرى للظهور كمدافع عن القيم التقليدية.
جورجيا ميلوني، التي انتقدت النزال بين خليف والملاكمة الإيطالية أنجيلا كاريني، معتبرةً أن مستويات التستوستيرون لدى خليف تجعل المنافسة غير عادلة، تعكس جزءاً من التحالف اليميني العابر للحدود.
ميلوني، التي صعدت إلى السلطة بدعم اليمين الإيطالي، تستخدم مثل هذه القضايا لتأكيد موقفها المعارض للتغيرات الاجتماعية السريعة التي تعتبرها "تهديداً للقيم الإيطالية التقليدية".
قضية جديدة قديمة
ويقول أستاذ علم اجتماع في الجامعة الأميركية في بيروت، والباحث في التاريخ الاجتماعي للرياضة، نديم القاق، "السياسيين يبنون حملات انتخابية على مواضيع مثل الهوية الجندرية".
ويوضح القاق لبي بي سي، إن الساسة اليمنيين "لديهم تاريخ في استغلال الرياضة لتحسين صورتهم أو ليروّجوا لآرائهم"، مستشهداً بما حدث في ألمانيا والأرجنتين خلال فترات حكم اليمين.
ويؤكد القاق أن الحديث السياسي الذي "يخلق جدلاً" يؤثر على قرارات الهيئات الرياضية "بشكل كبير".
ويشير القاق إلى أن "غياب نموذج موحد حول الفحوصات الطبية وغياب حلول لتعريف الهوية الجندرية في قوانين وقواعد الهيئات الرياضية الدولية، يُسهم في أن تُستغل مثل هذه القضايا من قبل حملة أفكار اليمين".
في السنوات الأخيرة، أصبحت قضايا الهوية الجندرية والمساواة في الرياضة موضوعاً ساخناً للنقاش بين الأطياف السياسية المختلفة، وخصوصاً بين اليمين واليسار.
يركز اليمين غالباً على الحفاظ على "النزاهة" في الرياضة النسائية، حيث يعبر عن قلقه من أن المنافسات تصبح غير عادلة عندما تشارك رياضيات لديهن مستويات عالية من هرمون التستوستيرون، سواء كن عابرات جنسياً أو لديهن اضطراب في النمو الجنسي.
يزعم السياسيون والمحافظون من هذا التيار أن السماح لهؤلاء الرياضيات بالمنافسة قد يهدد التوازن التقليدي الذي تميزت به الرياضة النسائية لعقود.
وبالنسبة لليمين السياسي، تمثل الرياضة فرصة للدفاع عن القيم التقليدية ومقاومة التغيرات الاجتماعية التي يرونها تهديداً للنظام الاجتماعي القائم. ويجد اليمين في طرح قضايا مثل العبور الجنسي في الأوساط الرياضية، فرصة للتذكير بمخاوفه من تآكل الأسس التقليدية بشكل عام، وفي المنافسات الرياضية بشكل خاص.
في المقابل، يدافع اليسار عن حق الرياضيات، ومن بينهن العابرات جنسياً، بالمشاركة في المنافسات الرياضية، ويعتبر أن التركيز على هرمون التستوستيرون كمقياس وحيد غير كافٍ لتحديد الأهلية الرياضية.
يُشير يساريون إلى أن الرياضة يجب أن تكون ساحة اندماج وتنوّع تتيح الفرصة للجميع للمشاركة، بغض النظر عن هويتهم الجندرية.
والجدل حول إيمان خليف ليس الأول من نوعه. في أولمبياد طوكيو 2020، تعرضت لوريل هوبارد، وهي رياضية عابرة جنسياً من نيوزيلندا، لانتقادات واسعة بسبب مشاركتها في مسابقة رفع الأثقال للنساء. كذلك، واجهت عداءة جنوب إفريقيا كاستر سيمينيا انتقادات مماثلة وتم فرض قيود على مشاركتها في بعض المسابقات بسبب مستويات التستوستيرون العالية لديها. هذه الحالات توضح كيف أصبحت الرياضة ساحة معركة ثقافية تتقاطع فيها قضايا الهوية الجنسية مع مفاهيم النزاهة الرياضية.
من الناحية العلمية، فإن تأثير مستويات التستوستيرون على الأداء الرياضي لا يزال موضوعاً معقداً ومحل جدل كبير.
بينما تُظهر بعض الدراسات أن مستويات التستوستيرون المرتفعة قد تمنح بعض التفوق البدني، فإن آخرين يشيرون إلى أن الأداء الرياضي يعتمد على مجموعة واسعة من العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية، ولا يمكن اختزاله في عامل واحد فقط.
يظل هذا النقاش مثالاً حيّاً على كيفية تحول الرياضة إلى ساحة للصراع الأيديولوجي، حيث تتجاوز الخلافات بين اليمين واليسار حدود السياسة التقليدية لتشمل موضوعات مثل الجندر والهوية، مما يجعلها أحد أبرز معارك العصر الحديث.
هذه المعركة الأيديولوجية في الرياضة تعكس كيف أن القضايا الثقافية والاجتماعية أصبحت محوراً رئيسياً للتنافس بين الأطياف السياسية، مع تأثير مباشر على حياة الأفراد الذين يجدون أنفسهم في وسط هذا النقاش المحتدم.
دوافع شخصية لانتقاد خليف؟
كان ترامب في ثمانينيات القرن الماضي، قريباً من الحلبة، وسُجل ظهوره في أكثر من مناسبة مهمة لرياضة المصارعة الحرة، وهو ما قد يُفسر انتقاده لخليف على أنه رأي رياضي أكثر من كونه تعليقاً سياسياً.
وفي محاولة لفهم دوافع تصريحات ترامب، يقول الطبيب النفسي، والباحث في علم السياسة والاجتماع، عبدالرحمن التميمي، لبي بي سي، إن اهتمام دونالد ترامب بالمصارعة في فترة سابقة، "يعكس جوانب من شخصيته التي تميل إلى إثارة الجدل والتفاعل مع الجماهير بشكل مباشر".
مشيرأ إلى أن المصارعة، كرياضة ترفيهية، "تعتمد على إثارة العواطف والتحدي، وهذا ما يتجلى أيضاً في خطاب ترامب السياسي".
ويضيف التميمي أنه من ناحية أخرى، "فإن ترامب بتوجهاته اليمينية الحالية واستغلاله لقضايا مثل العبور الجنسي، تأتي من محاولته المستمرة لتعزيز قاعدته الشعبية المحافظة. بالنسبة لترامب، فإن قضايا مثل هذه تُعد فرصة لإثارة المزيد من الجدل وتعزيز صورته كمدافع عن القيم التقليدية، خاصة في سياق التحضير لأي عودة محتملة للمشهد السياسي".
وكان المصارع الشهير هالك هوغان، قد شارك في اليوم الأخير من المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، في مدينة ميلووكي بولاية ويسكنسن.
وخلال إلقاء كلمة أعرب فيها عن تأييده للرئيس السابق دونالد ترامب، قام هوغان بتمزيق قميصه، وهي الحركة التي اشتهر بها خلال مباريات المصارعة. وهو ما يعكس تأثير هذه الرياضة على شخصية وأفكار ترامب.
وأعاد رجل الأعمال إيلون ماسك، نشر تغريدة على منصة إكس، كتبتها الناشطة والرياضية، رايلي جاينز، جاء فيها "الرجال لا ينتمون إلى الرياضات النسائية"، وارفقت تغريدتها بصورة اللاعبة الإيطالية.
ماسك، الذي يُعرف بمواقفه المتنوعة، يرى أن التفاوت البيولوجي يمكن أن يقوض عدالة المنافسات، ويستخدم هذه القضايا لتعزيز رؤيته حول أهمية النزاهة والتوازن. موقفه يعكس توجهه الأيديولوجي الذي يجمع بين الليبرالية والمحافظة.
ويصف مقال لجيريمي دبليو بيترز، المنشور في صحيفة نيويورك تايمز، طريقة تفكير ماسك "لا أحد قادر على معرفة نوع الفلسفة السياسية التي يعتقد بها الملياردير الغامض".
Absolutely https://t.co/twccUEOW9e
— Elon Musk (@elonmusk) August 1, 2024
ويرى الدكتور التميمي أن إيلون ماسك يتبنى نهجاً مختلفاً نوعاً ما، حيث "يخلط بين رؤيته الخاصة للعالم وبين رغبته في تحدي الأجماع السائد".
ويشير التميمي لبي بي سي، إلى أن ماسك، "المعروف بمواقفه المثيرة للجدل، يرى في دعم أفكار اليمين، وخاصة ترامب، وسيلة لتعزيز صورته كشخص يتحدى التقاليد ويبتكر باستمرار". مضيفاً "ومع ذلك، فإن مسألة ابنه العابر جنسياً قد تكون عنصراً شخصياً معقدًا يؤثر على مواقفه".
ويوضح التميمي أن رفض ماسك العلني لهذا الجزء من حياته العائلية "يشير إلى صراع داخلي وربما شعور بخيبة أمل، وهو ما قد يدفعه للتقرب من أفكار أكثر محافظة كرد فعل نفسي".
ويشير الدكتور التميمي إلى أن استخدام ميلوني لقضايا مثل العبور الجنسي في الرياضة "يعكس محاولة واضحة لترسيخ دعم قاعدتها اليمينية، وكأداة لتعزيز هويتها السياسية وضمان استمرار دعم اليمين المتشدد لها، خاصة في ظل التغيرات الاجتماعية السريعة التي تشهدها أوروبا".
التعليقات