يثور جدل في الجزائر حول منتخبها لكرة القدم، مع تواجد خمسة عشر "محاربًا" نشأوا بفرنسا وانخرطوا في البيئة الثقافية والاجتماعية الفرنسية، ما خلق تضاربًا بشأن جدوى استعانة الجزائر بلاعبين غير متشبعين بثقافة وهوية أجدادهم.
كامل الشيرازي من الجزائر: بالنسبة إلى اللاعب الدولي الجزائري السابق محمود قندوز، الأمر ينطوي على مغالطة تسعى دوائر غربية للتسويق لها، لاسيما فرنسا. ويشدّد قندوز، الذي خاض مونديالي 1982 و1986، على أن هؤلاء اللاعبين جزائريون مئة بالمئة، أما حكاية أنّهم وُلدوا وتلقوا تعليمهم في فرنسا، فذاك طبيعي طالما أن هؤلاء رأوا النور في الغربة، "فهل كان مطلوبًا من عائلاتهم الإتيان بهم إلى الوطن الأمّ حتى يصيروا جزائريين؟".
وتساءل قندوز: "لِم لا يقول الفرنسيون إن عشرات النجوم الجزائريين صنعوا أمجاد منتخبهم منذ ثلاثينيات القرن الماضي، بل أن كأس العالم الوحيدة بجعبة الديوك أتت برأس الجزائري زين الدين زيدان".
أين المشكلة؟
يقدّر قندوز بأن الجزائر التي أضاعت الكثير من مواهبها، ليس في الرياضة فحسب، بل في العلوم والاختراعات، قطعت أول خطوة على الطريق الصحيح عبر نجاحها في دمج أبناء الجيلين الرابع والخامس من جزائريي المهجر، مشيرًا إلى أن بلاده فقدت خدمات نجوم كبار على منوال كمال مريام، وسمير ناصري، وكريم بن زيمة، الذي يصنع أفراح الفرنسيين الآن في مونديال 2014.
من جانبه، ذهب مصطفى كويسي، وهو دولي جزائري سابق، إلى أن بعض الأطراف لم يعجبها امتلاك الجزائر منتخبًا تهابه الأمم، "فراحت تنبش وتصطاد في الماء العكر". وألّح كويسي على أنّه لا يمكن لأحد الطعن في جزائرية 23 محاربًا يخوضون المونديال، "ثمّ إننا لم نقم بتجنيس لاعبين، بل استرجعنا جزائريين من لحمنا ودمنا".
وأضاف مواطنه عبد الحكيم سرار، بطل أفريقيا على مستوى النوادي (1988) والمنتخبات (1990): "حتى وإن جلبنا لاعبًا جزائريًا من سطح القمر أو من كوب المريخ، أين المشكلة، المهم أنّه جزائري، وله القدرة على منح الإضافة للمنتخب".
مرآة غير عاكسة
سجّل عبد الغني، زبير، شوقي، جميلة وغيرهم من متتبعي الشأن الكروي أنّه يُفترض في أي منتخب وطني، حتى يكون وطنيًا، أن يكون مرآة عاكسة لهوية وطنه وشعبه في هيئته وسلوكه، خصوصًا في تظاهرة كونية بوزن كأس العالم،&التي سعت، ولا تزال، أمم صغيرة، مثل كوستاريكا والإكوادور وتوغو وتشيلي والهندوراس، لإبراز صورها فيها&كأمم عميقة الهوية والحضارة والثقافة.
لكن من تحدثوا لـ"إيلاف"، لا يمنعهم حبهم لمنتخبهم القومي أن يعدّدوا جملة أمور تصطدم بهذا المقصد، بينها استعمال جل اللاعبين للفرنسية وهي لغة المحتل القديم، وحمل بعض اللاعبين لأسماء غريبة وتسريحات شعر عجيبة، وتبني الجمهور والإعلام والمسؤولين لشعارات تشجيعية هجينة.
ويؤكد المشجعون: "حبنا لفريقنا ليس أصلًا في ذاته، بل هو فرع عن حبنا لوطننا بعناصر هويته وثقافته"، لذا أهابوا بالمعنيين تفادي هذه الإختلالات مستقبلًا، ليصير المنتخب القومي ممثلاً حقاً للوطنية الجزائرية، شكلًا ومضمونًا.
وإذ يقرّ الإعلامي البارز مسعود هدنة بأنّ لاعبي منتخب بلاده يمثلون فرنسا أكثر مما يمثلون&الجزائر، فإنّه عزا تصرفات هؤلاء اللاعبين الذين يوشمون ويحلقون شعورهم بطرق غريبة، الى "نمط حياتهم في أوروبا وتأثرهم كغيرهم من اللاعبين العرب وغير العرب الذين يلعبون هناك، والمسألة تتلخص في رأيه بـ"موجات شبابية لا أكثر".
ويسجّل هدنة أن هؤلاء اللاعبين أنفسهم يقرأون الفاتحة ويرفعون أيديهم بالدعاء قبل بداية المباريات، ويسجدون بعد كل هدف يسجلونه، "وعليه يمكننا أن ننتقد سلوكياتهم لكن لا يمكننا أن نجرّمهم، أو نقول إنهم لا ينتمون حضاريًا إلى الأمة الجزائرية المسلمة".
فرنسيون عند الهزيمة جزائريون عند المكسب
يستهجن سليم، عمار، عدلان ونسيمة تعاطي مواطنيهم، بمن فيهم وجوه معروفة محليًا، مع عثرات وإنجازات منتخبهم بعقلية مزاجية، فعندما خسرت الجزائر أمام بلجيكا، تردّد أن المنتخب يمثل فرنسا ومواليها، وحين نجح هزم المنتخب كوريا الجنوبية، راحت التعاليق تهلل لـ"جزائرية المنتخب، وأصالة لعب المنتخب&الجزائري وروح لاعبيه القتالية النابعة من عمق جزائري".
وبمنظور الأديب خالد ساحلي، هوية جزائريي الخارج ليست هي المشكلة، معلقًا: "قد نجدهم متمسكين حقيقة بثوابت الأمة عن غيرهم، لأنّ تربيتهم خارج بلدانهم تحتم عليهم المحافظة على كيان وجودهم في ظل ثقافات أخرى مختلفة موازية".
ويضيف ساحلي أن هذا لا يعني أن الجزائريين المقيمين في الجزائر ليسوا منسلخين بالضرورة عن هذه الثوابت، بيد أن الوطنية لا تقاس بفضاء ولا بتراب لأنها في الحقيقة موطنها القلب والعقل والتنشئة الاجتماعية الصحيحة بعيدة عن المزايدات.
ويشدّد ساحلي: "يمكن لأي مواطن مزدوج الجنسية أن يمثل وطنه خير من الذي يتشدق بالوطنية، فهي ليست حكرًا على أحد، ومقياسها الحقيقي هو التشبث والمقاومة في ظل ثقافات أخرى". كما قال المهاتما غاندي: "يمكنني أن أفتح نافذتي لرياح الغرب، بشرط أن لا تقتلعني من جذوري"، وعليه يجزم ساحلي أن المشكلة الثقافية يمكن أن نجدها في الأساس عند السكان الأصليين بدل المغتربين، والمغتربون كذلك هم جزائريون "فلتصمت الأفواه الناعقة بالفتنة"، على حد وصفه.
إزدواجية لا تعرقل المحاربين
لا يعتقد حبيب أبو خليفة، أستاذ علم الاجتماع الثقافي بجامعة الجزائر، أن العامل الثقافي الإنتمائي يمكن أن يلعب دورًا جوهريًا في نجاح أي فريق أو مجموعة، بقدر ما يكون النجاح مرتبطاً بالمستوى التقني والفعلي وبنية العقلية الناجحة. ويتصور أبو خليفة أن الأمر جد معقد، قياسًا بالتغييرات الكبرى في المجتمعات الإنسانية، خصوصًا في ما يخص الرياضة، وبالأخص كرة القدم.
يلاحظ أبو خليفة أن منتخب محاربي الصحراء يتكون حقيقة من مزدوجي الثقافة ، "لكن لا يمكن أن يكون ذلك عائقًا في وجه نجاح الفريق، مستطردًا: "حظنا اليوم في النجاح مرتبط أساسًا بهذا الموزاييك المتعدد الثقافات". ويذهب محدثنا إلى أن العبرة بطبيعة الصورة التي سيحتفظ بها العالم عن الجزائر بعد نهاية المونديال، مبرزًا أن العلم الجزائري يرفرف في قمم البرازيل، وكثير ممن لم يكن يسمع بالجزائر أصلًا، صار يعرف كثيراً من قيمها بفضل ما يقدمه هؤلاء الجزائريون في أرض السامبا.
ويتساءل أبو خليفة: "هل يمكننا اليوم تكوين منتخب جزائري محلي 100 بالمئة"، لافتًا إلى أن ما يحدث في الجزائر ينطبق على سائر الدول، مضيفًا: "بلادنا متخلفة ومنطقيًا كرتنا المحلية متخلفة أيضًا، لذا لا أرى مانعًا من استقدام مزدوجي الجنسية لإعطاء صورة مشرفة عن الجزائر". وانتهى إلى أن الانتماء أصبح قيمة ثقافية مشتركة في الرياضة، في صورة زيدان الجزائري الذي شرّف الكرة الفرنسية.
تراكمات زيدان
ظلّ اللاعب الفرنسي ذو الأصل الجزائري زين الدين زيدان، لسنوات طويلة محلّ سجال تاريخي بين الجزائر وفرنسا، حيث حرصت الدولتان على استقطاب زيدان على نحو (نوستالجي) وإخضاعه لمنظور سياسي يخدم توجهات كل بلد، حتى أن التنافس على (جزائرية) أو (فرنسية) زيدان تحوّل في وقت ما إلى رهان رمزي، إن لم نقل قضية شرف، على الرغم من أن زيدان شدّد على أنّه مجرد رياضي ولا يريد الدخول في متاهات سياسية.
وفي خضّم هذا الصراع، ظلّ زيدان محلّ تجاذب بين قصري المرادية والإليزيه، ففي وقت جزم مسؤول جزائري بارز أن زيدان فرنسي بحكم قانون الأرض، لكنه جزائري بقوة قانون الدم، سارع السفير الفرنسي الأسبق بالجزائر، للقول: "أنا جد سعيد لاستقبال الفرنسي الكبير، في هذا البيت الذي خطط فيه الجنرال ديغول لتحرير فرنسا".
لكن الجزائر رمت بالتصريح جانبًا، وارتضى الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في 10 كانون الأول (ديسمبر) 2006 منح زيدان وسام الأثير، وهو أعلى وسام تمنحه البلاد لأبطال الثورة التحريرية.
وحرص بوتفليقة على أن يتم ذلك بحضور أعضاء الفريق الشهير الذين رفضوا الاشتراك مع فرنسا في مونديال 1958 وهبّوا لتشريف بلادهم، وهي رسالة أراد الرئيس الجزائري من ورائها إفهام الفرنسيين بأنّ أفذاذ الجزائر استغنوا عنها، وما زيدان سوى طفرة أضاعتها بلاده كرويًا، لكنّه بقي في صميم إرثها الوطني والتاريخي.
عنوان للتفاؤل
ولعلّ احتفاء ملايين الجزائريين بزيدان، ووضع السلطات الجزائرية الطائرة الخاصة للرئيس بوتفليقة، تحت تصرف زيدان وعائلته في العامين 2005 و2010، شكّل إمعانًا في مسعى الجزائر للتشبث برمزية زيدان التاريخية، حتى أن أحد رسامي الكاريكاتير علّق قائلًا: "على فرنسا أن تعتذر منا لأنها سرقت منا زيدان"، بيد أن صحافيًا فرنسيًا صرخ وسط الجموع: "زيدان لا يعرف من العربية شيئًا، حتى أن أبناءَه يحملون أسماء مسيحية، ثمّ هل يمكن للمرء أن يفتخر بكونه فرنسيًا وجزائريًا في آن واحد؟"، وهو تصريح زاد عليه الإعلامي الفرنسي المخضرم "تيري رولان": "زيزو ولد في مرسيليا فهو فرنسي ولا يمكنه أن يكون غير ذلك".
المثير أن زيدان الذي جمع في أعقاب زلزال 21 أيار (مايو) 2003 المدمّر، 4.9 ملايين يورو استغلت في انجاز ما يربو على خمسين مشروعًا اجتماعيًا، كان يجد أينما حلّ وارتحل الآلاف من الشباب في انتظاره، يهتفون "يحيا زيزو"، صار بأعين هؤلاء عنوانًا للبركة والتفاؤل، إذ ذكر أحدهم بعد سقوط أمطار غزيرة مباشرة بعد زيارة زيدان لأرض أجداده: "زيزو رجل مبارك، فقد جلب البركة إلى الجزائر، وبقدومه جاء الغيث عقب طول جفاف وبعدما قنط الناس".
التعليقات