أصدر "الفريق الدولي للدراسات الإقليمية والأقاليم الصاعدة" مؤخرًا، في الدار البيضاء، نتائج دراسته للإرهاب، تحت عنوان "الكتاب الأبيض عن الإرهاب بالمغرب"، الذي مثل رصدًا دقيقًا لظاهرة الإرهاب، وتشريحًا للجماعات المتطرّفة التي عرفتها المملكة انطلاقًا من تشكلها ومحاولات تغلغلها في المجتمع على مدى الأعوام الـ12 الماضية.
الرباط: يعتبر متابعون "الكتاب الأبيض عن الإرهاب في المغرب"، أول دراسة توثيقية - ميدانية ترتكز على رصد الوقائع في محاولة لفهم الظاهرة الإرهابية بالمغرب منذ نشأتها إلى اليوم.
وحرص الفريق المشرف على هذا العمل على ربط ما هو داخلي في ما يتعلق بظاهرة الإرهاب، بتفاعلات ما هو جيو - استراتيجي.
تعريف قانوني
ينطلق الكتاب في تعريفه وتوصيفه للإرهاب من منظور القانون الدولي، ليتتبع كيف تم على مستوى الممارسة تلبيس الإرهاب غطاء دينيًا أدى إلى تشويه الدين الإسلامي ورفع عتبة التوتر الحضاري بين الغرب والنسيج العربي الإسلامي.
يحرص الكتاب ايضًا على تتبع وتحليل مختلف وسائل وتقنيات الاستقطاب والتلاعب بالمشاعر والعقول، التي سلكتها التنظيمات الإرهابية لبناء فاعلين قادرين على الدفاع على مشروع سياسي يلغي الحق في الحياة وقيم التعايش، وينفي "الاخر" من دون استثناء كيفما كان لونه، دينه أو جنسه.
"الشبيبة الإسلامية" هي الأصل
ينحو الكتاب إلى كون الظاهرة الإرهابية في المغرب ليست وليدة أحداث 16 مايو 2003، بل يمكن توثيق ميلادها بنشأة "الشبيبة الإسلامية" سنة 1972، حيث كانت هذه الأخيرة تقوم بتكفير أجزاء من المجتمع وتنادي بالعنف والقتل.
وإذا كانت عملية اغتيال أحد قادة اليسار المغربي دفعت إلى حلم كان يُفترض فيه أنه "جمعية دعوية"، فإنها فتحت الباب على ما أسماه الكتاب "دورة التفتيت"، على اعتبار أن "حركة المجاهدين بالمغرب" و"الجماعة الإسلامية المقاتلة بالمغرب" و"الخيار الإسلامي" كلها تناسلت من داخل "الشبيبة الإسلامية" وأطّرت عديدًا من الخلايا.
"جهاديون مغاربة"
لا يخفي الكتاب التأثير الخارجي في تنامي مخاطر الظاهرة الإرهابية، بل يحللها بشكل دقيق، انطلاقًا من عرض دور المغاربة الذين حاربوا في أفغانستان وفي البوسنة، ثم لاحقًا بالعراق في تنمية التهديدات الداخلية للإرهاب.
ويركز الباحثون على متغير "الدول المنهارة" التي جرى تحويلها إلى مساحات وبؤر للإرهاب، اجتاحها تنظيم القاعدة بعد قرار مؤسسه أسامة بن لادن الانتقال من السودان للاستقرار بأفغانستان، ثم لاحقًا تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام.
حسب الكتاب، تم استقطاب المئات، بل الآلاف من المغاربة لمساحات الاقتتال ومناطق التوتر بالساحل، سوريا والعراق والمنطقة الباكستانية- الأفغانية جد مؤرق لأنهم يحملون مشروع استنساخ التجربة عند العودة إلى بلدهم.
بل إن أغلبهم لم يذهب إلى القتال إلا لإن السياسات الاحترازية ضيقت مساحات وإمكانات التحرك بالمغرب. فكل الخلايا المفككة كان لها هدف إقامة معسكرات في الجبال والبوادي نقلاً عن تجارب مثل الجزائر، وهو ما لم تستطع الوصول إليه.
نجاعة الاستراتيجيا المغربية
توصل الباحثون إلى قناعة راسخة مفادها أن استراتيجية التصدي للإرهاب المغربية تكمن نجاعتها في أنها استباقية ومتعددة الأضلاع. فالعمل الأمني متوازٍ مع إعادة هيكلة الحقل الديني، مسنود بمقاربة اجتماعية تجعل الإنسان في صلب التنمية، لمحاربة الهشاشة والتهميش.
كان أهم مقومات كيميائية الوصفة المغربية في مكافحة الإرهاب، تفكيك أزيد من 130 خلية إرهابية منذ سنة 2000 وهو ما شكل مادة دسمة للباحثين مكنتهم، بحكم التراكمات، أن يخرجوا باستنتاجات مبنية على وقائع، أولها يقضي تمامًا على تفسيرات أقربها إلى التبرير من التفسير. إذا كان أغلب انتحاريي 16 مايو 2003 ينحدرون من أوساط فقيرة، ما دعا بالبعض إلى ربط ظاهرة الإرهاب بالفقر والتهميش، في حين أنّ تصفح لائحة المتورطين في أعمال إرهابية لاحقة تفند ذلك لأن أغلبهم ينتمون إلى أوساط مستقرة المستوى الإجتماعي، وفي بعض الأحيان إلى أوساط راقية.
كما أن غالبية المحكومين في قضايا الإرهاب بدأوا ممارساتهم بالتعزير انطلاقًا من مفهوم النهي عن المنكر. هكذا يشكل الوازع الأخلاقي في غالب الأحيان المدخل إلى المنهج التكفيري-الاستئصالي الذي يؤدي حتما إلى استباحة العنف الممنهج والمنظم.
في هذا السياق، يوضح مسار الإرهابيين أن أغلبهم تدرّج عبر تنظيمات هي نفسها تدرجت في بنائها الفكري ومشروعها السياسي، مما يستدعي فتح نقاش حول علاقة الفكر المتطرف بعملية التأصيل الفكري للفعل الإرهابي.
ضعف التعاون الاقليمي
يخلص الباحثون أيضًا في كتابهم إلى ضعف التعاون الإقليمي في الحرب على الإرهاب رغم حدة مخاطره. هكذا يحلل الكتاب الوضعية في الساحل، بالوقوف على محدودية مردود عملية "سرفال" في مالي، وارتباط الإرهاب بالجريمة المنظمة في هذه المنطقة، وكذلك خطر الظاهرة على كل دول الجوار دون استثناء.
كما يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن العشرات من انفصاليي جبهة "البوليساريو" تشبعت بهذا الفكر والتحقت بتنظيمات كـ"القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي" و"الموجاو" (MUJAO)، وهو ما يطرح مسؤولية البلد الراعي، انطلاقًا من المبدأ الدولي المتعلق بقانون مسؤولية الدول.
البعد العالمي
البعد الجهوي، ثم العالمي لظاهرة الإرهاب يتم استحضاره بقوة لفهم التطورات الحاصلة بالنسبة للباحثين، وهو حاضر فعلاً في العمل الميداني للأجهزة الأمنية المغربية التي ساهمت في إحباط العديد من العمليات الوشيكة في بلدان عديدة.
"الكتاب الأبيض عن الإرهاب في المغرب" يسلط الضوء كذلك على طرق اشتغال الإرهابيين وكيفية الشحن باستعمال وسائل السمعي البصري واستغلال التكنولوجيا الحديثة كالأنترنت، ومن ثم طرق تهيئ الفرد وتعدّهُ لقبول فنائه الشخصي لإيذاءالآخرين.
كرونولوجيا توثيقية
يعرض الكتاب كرونولوجيا كل القضايا الإرهابية المعروضة أمام محكمة سلا، ومع تبيان مخططاتها الرهيبة التي تستهدف زعزعة الإستقرار باستهدافها لأماكن عبادة، ورموز الدولة وسيادتها وشخصيات عمومية ومنشآت سياحية واقتصادية ومصالح غربية، خاصة الأميركية منها. هذه الكرونولوجيا التوثيقية في حد ذاتها تشكل بغناها مرجعًا لكل الباحثين والملاحظين المهتمين بظاهرة الإرهاب، لأنها تمتد على فترة تصل إلى خمس عشرة سنة.
إلى ذلك، يدعو "الكتاب الأبيض عن الإرهاب في المغرب" أمام عولمة مخاطر الإرهاب، إلى تنسيق دولي حقيقي ليس على المستوى الأمني فحسب، بل على مستويات متعددة لتجفيف منابع الظاهرة، وهي دعوة ترتكز&على المعطيات الثابتة والتحليل الرصين لظاهرة تهدد كل دول العالم، وكل المجتمعات دون تمييز. ولا يمكن لهذا التنسيق أن يستغني عن تجربة المغرب المتميزة في محاربة هذه الظاهرة.
لكل هذه الأسباب، وعلى اعتبار الكتاب مرجعًا فريدًا من نوعه، قرر الفريق الدولي للدراسات العابرة للأقاليم والأقاليم الصاعدة، إصدار العمل باللغات العربية والإنجليزية والإسبانية والفرنسية واليابانية، ليضع ما يحمل بين طياته من معلومات وتحاليل لكل راصدي الظاهرة الإرهابية، عَل ذلك يمكِّن من توحيد الرؤى وصياغة استراتيجيات موحدة من منطلق أن إشاعة المعرفة بين الباحثين وأريحية التبادل المعلوماتي بين الدول، هي من أهم ضرورات معركة التصدي للإرهاب.
التعليقات