المشهد التركي اليوم في ما يتعلق بالحركات الجهادية لا يفترق عن المشهد الباكستاني مع طالبان. إنه الدور المزدوج الذي تلعبه انقرة، من خلال حراك إقليمي ودولي لمكافحة الارهاب.
&
نشرت صحيفة جمهوريت التركية مطلع العام 2014 وثائق سرية عن نقل شاحنات من الاسلحة والذخيرة تعود إلى الاستخبارات التركية، كان من المقرر أن تصل إلى معارضين إسلاميين سوريين يواجهون نظام الأسد، فأثارت سجالًا داخليًا. ونشرت صورًا وتسجيل فيديو أكدت أنها لشحنات أسلحة أرسلت إلى المعارضة السورية الإسلامية المسلحة، ما يدعم اتهامات تنفيها حكومة أنقرة حول تسليح الاسلاميين في سوريا. كما نشرت الصحيفة صور قذائف هاون مخبأة تحت أدوية في شاحنات مؤجرة رسميًا لصالح منظمة إنسانية، اعترضتها قوة درك تركية قرب الحدود السورية في كانون الثاني (يناير) 2014.
&
حضور تركي
&
وتشهد تركيا حراكًا سياسيًا واسعًا على المستويين الاقليمي والدولي، في اعقاب المتغيرات في مسألة الجماعات "الجهادية" وتوسعها، ابرزها تنظيم (داعش) الذي يمتد على معظم الحدود التركية مع سوريا والعراق. هذا التنظيم شكل حزامًا أمنيًا لتركيا، اكثر ما يكون مصدر تهديد لأمنها الوطني. هذه المتغيرات وتدفق الجهاديين من الغرب إلى سوريا والعراق ومناطق قاعدية أخرى صعدت من الدور التركي في المنطقة، من خلال وجودها داخل حلف الناتو والمرشحة لعضوية الاتحاد الاوروبي، رغم كل الانتقادات لحكومة انقرة بلعب دور مزدوج. وتندفع حكومة أردوغان بشدة لتعزيز نفوذها قوةً إقليمية، وتتجه نحو المناطق التي تشهد صراعات ونزاعات دولية. وسبق لأردوغان أن زار الصومال خلال شهر كانون الثاني (يناير) 2015، وربما كان أول رئيس دولة يقوم بهذه الزيارة منذ اكثر من عشرين عامًا، سبق أن أثبت التواجد التركي حضوره في افغانستان وباكستان، إذ اعتمدته طالبان وسيطًا بسبب الدور السياسي الذي تلعبه تركيا في المنطقة.
&
جهاد وراديكالية
&
بدأت تركيا سياسة اكثر اندفاعًا نحو تغيير النظام في سوريا منذ العام 2011، فسمحت بتدفق المقاتلين العرب والجهاديين إلى سوريا عبر أراضيها. التحقيقات والتقارير الوثائقية كشفت عن دخول مقاتلين عرب وأجانب من اوروبا ومن مختلف دول العالم، عبر نقاط الحدود التركية ومطاراتها وبشكل علني، من أجل العبور إلى سوريا. وتدفق الجهاديين من تركيا شيء محير، لأن الأتراك لم ينضموا سابقًا لتنظيمات "جهادية" كالقاعدة والدولة الاسلامية بأعداد كبيرة، كما أن تقدم داعش في العراق وسوريا جاء بثمن كبير دفعه الشعب التركي. فـ"الراديكالية" في تركيا متناسبة تمامًا مع ظهور مؤسسات سياسية ومجتمع مدني إسلامي خلال السنوات الأخيرة، في ظل حكم حزب العدالة والتنمية، لذلك لم تكن "الراديكالية الإسلاموية" بارزة في صورة تركيا التي تطرح نفسها نموذجًا للديموقراطية الإسلامية أو الاسلام المعتدل. لكن مجلة "فورين أفيرز" الأميركية ترى أن الراديكالية في تركيا، المتناسبة مع ظهور مؤسسات سياسية ومجتمع مدني إسلامي تحت حزب العدالة والتنمية، أخرجت من تركيا عددًا كبيرًا من "الجهاديين"، انضموا إلى داعش، حيث ولَّدَ مجتمع مدني ومؤسسات سياسية مهترئة بيئة مؤاتية للراديكالية.
&
العودة المريبة
&
وتتابع المجلة: "زرنا تركيا وحضرنا ندوات إسلامية طرحت فيها وجهات نظر مؤيدة للجهاديين، من أجل تكوين فهم أوسع حول الرديكالية في تركيا". كما أن ترك حكومة أردوغان الحدود مفتوحة مع سوريا والعراق ساعد على تسرب المقاتلين الاتراك والالتحاق بجماعات القاعدة هناك.
&
وقال تقرير للاستخبارات نشرته صحيفة "ديلي حرييت" التركية: "ثلاثة آلاف تركي، مع نحو 700 إلى 1000 مقاتل تركي، يحاربون إلى جانب داعش في سوريا والعراق، وعودتهم المتوقعة إلى تركيا تثير قلقًا لدى حكومة أنقرة".
&
ودعا التقرير الأمن إلى اجراء مسح ومراقبة لطبيعة صلة ومناصب هؤلاء في تنظيم داعش، وما اذا كان لهم نشاط داخل تركيا، واصفًا الـ3000 مقاتل بالخلايا النائمة. ورجح التقرير احتمال وقوع هجمات لداعش والقاعدة ضد قنصليات غربية داخل تركيا.
&
أنقرة والاخوان
&
اليوم، تركيا تحتاج إلى التموضع من جديد وتنظيم نفسها من الداخل، وإعادة النظر في دورها في التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، في ضوء التطورات الجديدة في المنطقة. أما علاقاتها مع التنظيمات "الجهادية" وتنظيم الدولة الاسلامية فهو لا يقل أهمية عن دورها مع الأخوان، إن لم يكن متداخلاً معه بعد تحالف الاخوان والجهاديين في سيناء وليبيا والعراق وسوريا. تأتي التطورات الاقليمية سريعة وكبيرة الحجم يصعب احتواؤها من قبل انقرة، لذا ردود أفعال أنقرة جاءت في الإتجاه المعاكس. الدور التركي في إدارة ملف الإخوان الدولي سيكون اوسع بعد قرار قطر إبعاد قياديي الجماعة المحظورة.
&
وفي هذا السياق، حدد خبراء عسكريون أميركيون في أربيل ذخائر عسكرية مصدرها تركيا، تحمل علامة تصنيع "شركة الصناعات الكيميائية والميكانيكية التركية" عثر عليها أثناء القتال بين داعش وقوات البشمركة الكردية شمال العراق. واكدت صحيفة "طرف" اليسارية التركية الخبر، إلى جانب قناة "سكاي نيوز عربية"، في تقرير نشرته في أعقاب ذلك، مشيرة إلى العثور على كميات كبيرة من الذخائر التركية مع مقاتلي داعش.

استنساخ المشهد الباكستاني
&
يحاول الأتراك إقناع الأميركيين بأن تلك الذخائر سرقت من مخازنها، أو غنمها مقاتلو داعش من مناطق سيطروا عليها في سوريا. لكن ما يجري على الأرض وعلى الحدود التركية السورية والحدود العراقية ايضًا لا يمكن أن يتم من دون دور مؤسسة الجيش والاستخبارات للتعامل مع داعش والجماعات الجهادية. ومرونة حركة هذه الجماعات على مستوى التنظيمات أو مستوى الافراد داخل تركيا أو عبرها لا يمكن أن يحصل من دون مراقبة هذه الجماعات وشبكات اتصالاتها، وهذا يؤكد دور الجيش التركي في صنع القرار، خلافًا لما جاء في رأي الخبير الاميركي آل ستافورد.
&
فدور الجيش التركي في صنع القرار داخل تركيا، وادارة خلايا وجماعات جهادية داخل تركيا أو في سوريا والعراق، يعيد إلى الاذهان مؤسسة الجيش والإستخبارات الباكستانية وعلاقتها مع طالبان، والدور المزدوج بين الاستخبارات المركزية الأميركية وطالبان افغانستان.
&
المشهد التركي ليس بعيدًا من المشهد الباكستاني، وما يدعم ذلك أن كلتا المؤسستين الاستخباريتين في تركيا والباكستان تصنف ضمن المؤسسات الاستخبارية العميقة في المنطقة. وفي الحالة التركية، من المرجح أن يمتد نشاط الاستخبارات التركية إلى داخل سوريا والعراق، ضمن سياقات العمل الاستخباري والاجراءات الوقائية.

&