تهيمن النصرة على المحاكم الشرعية في المناطق السورية المحررة، لكن حال هذه المحاكم ليست على ما يرام، بسبب التدخل العسكري للفصائل المتنوعة في عمل القضاة.

&
علي الإبراهيم: كنا نجتاز أحد الطرق الفرعية حين نظر سائق التاكسي إليّ في المرآة وأخبرني، بعدما استجمع قواه، أنه لا يستطيع مواصلة المسير. سألته مستنكرًا، فرفع يده، وبدأ يمررها على عنقه جيئة وذهابًا، وقال: "أنا لا أريد أن أموت، سوف تنفذ غارة جديدة على المبنى".
&
حدث ذلك في التاسع من كانون الثاني (يناير) الحالي، حين نفذت طائرة حربية روسية غارة جوية على سوق شعبية ومبنى سجن معرة النعمان، التابع لتنظيم جبهة النصرة في ريف إدلب. الحصيلة النهائية تجاوزت سبعين قتيلًا وعشرات الجرحى، من بين القتلى امرأة خمسينية، قتل زوجها منذ شهور بغارة جوية أيضًا.&
&
لسوء الحظ، كانت السيدة تزور ولدها البكر، وهو معتقل في سجن تنظيم جبهة النصرة، عندما نفذت المقاتلة الحربية غارة جوية على المبنى، فتوفيت على الفور، وأصيب ولدها المعتقل، ليتم نقله إلى مشفى قريب، ويخرج بعد ساعات في وداع والدته. قبل إنتهاء عملية الدفن وصلت سيارة دفع رباعي تابعة للتنظيم، وأعادته إلى السجن.
&
هذه القصة ولدت لديّ ولدى الكثيرين ممن شاهدوا تلك الحادثة عديدًا من الأسئلة حول عمل المحاكم في المناطق المحررة والجهة التي تهيمن على القضاء، والقوانين والنصوص التي يتم العمل بها.
&
علاقة غير شرعية
تنتشر في الشمال السوري والمناطق المحررة، وتحديدًا في إدلب وريفها، مرجعيات واحدة للقضاء والمحاكم، أهمها محاكم جبهة النصرة، حيث لعبت النصرة بإرثها الشرعي دورًا أساسيًا في تشكّل معظم الهيئات القضائية الأولى في المناطق المحررة، بالاتفاق مع الفصائل السورية، لكن سرعان ما كانت تنسحب من تلك الاتفاقات، لتؤسس محاكمها الخاصة، إن لم تلق معارضة قوية من تلك الفصائل. حدث ذلك في إدلب وحلب واللاذقية، بينما عجزت الجبهة عن إنشاء محاكمها في ريف دمشق ودرعا.&
&
تعرف هذه المحاكم بتشدّدها في الأحكام وتطبيق العقوبات الجسدية، كما تمتاز بقدرتها التنفيذية العالية، والمستندة إلى قوة منظمة من العناصر تسمى الشرطة الإسلامية في مناطق، وفي مناطق أخرى تعرف بالحسبة.
&
إضافة إلى محاكم "النصرة"، تنتشر محاكم الهيئة الإسلامية لإدارة المناطق المحررة، ويبلغ عددها إحدى عشرة محكمة، تنتشر في محافظة إدلب وجزء من ريف حماه، وتتبع للهيئة الإسلامية لإدارة المناطق المحررة، التي تأسست في 2013، باتفاق فصائل إسلامية سورية، وبدور مؤثر لحركة أحرار الشام، بحسب ما ذكر عبدالحليم أحمد لـ"إيلاف"، وهو عضو مجلس القضاء الأعلى في الهيئة السياسية. وتتبنى محاكم الهيئة تطبيق الشريعة الإسلامية في محاكمها، وتتخذ محاكم الهيئة قوتها التنفيذية من الفصائل الموقعة على ميثاقها.
&
هيمنة النصرة&
قسم كبير من المحاكم المنتشرة تتبع للألوية العسكرية المقاتلة المسيطرة هناك، الأمر الذي يفرض عليها الامتثال إلى سياسة تلك التشكيلات العسكرية والرضوخ لتعليماتها. ومن أهمها محاكم تنظيم جبهة النصرة، التي تفرض سيطرة كاملة على المحاكم وسير القضاء.
&
حول فرض جبهة النصرة هيمنتها على المحاكم والقضاء، رد أبو الوليد رحمة، قاض شرعي يتبع للمحكمة العليا لجبهة النصرة، في تصريح لـ"إيلاف" فقال: "نحن نحكم طبقًا لأحكام الشريعة، ونؤكد على أهمية استمرار المحكمة الشرعية، التي تقضي بين الناس، وتفض الخصومات، وتفصل بينهم في النزاعات، وعلى عامة الناس أن يرفعوا شكواهم ومظالمهم إليها، وحرصنا أن تكون المدينة بأيد أمينة لتحقيق العدل والحكم بشرع الله".
&
بدوره، قال رئيس المحكمة الشرعية في معرة النعمان، الشيخ أحمد العلوان، لـ"إيلاف": "معظم القرارات التي تصدر من المحكمة منبثقة من الكتاب والسنة". ولفت إلى أن تلك المحاكم تتمتع بقوة عسكرية لفرض القرارات على جميع المذنبين، عسكريين كانوا أم مدنيين.&
&
ولا يخفى العلوان انقسام القضاء لسلطتين قضائيتين، هي الهيئة الإسلامية، والثانية تابعة لجبهة النصرة وجند الأقصى، ولتلافي حصول التباس، يتم التنسيق من أجل إنجاح العمل القضائي، فإذا كانت الدعوة منظورة عند التنظيم، فلا نعيد النظر فيها، وإذا كانت الدعوة لدينا لا يعيدون النظر أيضًا فيها، وكل طرف يحترم قرارات المؤسسة الأخرى" على حد تعبيره.
&
يعزو عبد المنعم زين الدين، الذي عمل مفتشًا قضائيًا في مجلس القضاء الشرعي سابقًا، في تصريح لـ"إيلاف"، عدم وجود جسم قضائي موحد ومستقل لتوحيد الفصائل، إلى أن المحاكم الحالية لا تعيش حالتها المثالية. يقول: "لا شك في أن القضاء في ظل الثورة لا يعيش حالته المثالية لتأثره بتوجهات الفصائل، وعدم وجود الحصانة القضائية، وسياسة المحاصصة الفصائلية في القضاء، لكنه ليس سيئًا، فهناك محاكم تتمتع بدرجة لا بأس بها من الاستقلالية، كمحكمة جبل الزاوية وغيرها".
&
الشريعة هي الأساس
تبدو جبهة النصرة في تعاملها مع الأقليات الدينية في إدلب وريفها حذرة نوعًا ما، خصوصًا بعد مقتل نحو عشرين شخصًا من الطائفة الدرزية في حزيران (يونيو) الماضي على أيدي بعض من عناصرها. وقتها اعتبرت الجبهة الحادثة خطأ غير مبرر، وتم من دون علم القيادة، متوعدة مرتكبي الحادث بالمحاكمة.
&
وقالت الجبهة في بيان لها في هذا الصدد إن وفودًا ولجانًا من الجبهة وقفوا على الحادث بأنفسهم، وطمأنوا الأهالي، مؤكدين أن ما وقع خطأ غير مبرر. منذ ذلك الحين، بدأ التعامل مع القضايا المتعلقة بالأقليات الدينية، وفق مبدأ التصالح، وتقوم بحلّ النزاعات بين الناس وإصدار الأحكام في بعض الأحيان.
&
يؤكد خبراء قانونيون أن من سلبيات الهيئات الشرعية ازدواجية الأحكام، إذ لا مرجعية قانونية ثابتة لها، فكل محكمة تصدر حكمًا استنادًا إلى الشريعة الإسلامية، لكن كل باجتهاده وفهمه لنصوص القرآن والسنة، بحيث من الممكن أن يحصل المتهم الواحد على حكمين مختلفين في المدينة نفسها أو ربما في الحي الواحد، وفي كثير من الأحيان يكون الحكم مخالفًا تمامًا لحكم المحكمة الأخرى.&
&
لكن المحامي يوسف عبيد يقرّ بفضل هذه الهيئات في ضبط 80 في المئة من المناطق المحررة، رغم سلبياتها، إذ حكمتها برهبة القاضي، بدلًا من رهبة وسطوة السلاح، ما يعني أنها حققت استقلالية إلى حد ما، "وقد شهدت حالات، تم إخضاع كبار القادة فيها للمحاكمة، كما شهدت حالات جلب لمعتقلين من داخل سجون الكتائب بالقوة، ترقى إلى استعمال السلاح أحيانًا، مع جلب المتورطين بعمليات القتل والخطف والاغتيال وإخضاعهم للمحاسبة القانونية".
&
عدالة تصالحية
يسيطر جيش الفتح وجبهة النصرة على المحاكم الشرعية، بالتنسيق مع مجلس القضاء، ويهيمن عدد من المشايخ ورجال الدين على إصدار القرارات معتمدين في ذلك على الشريعة والسنة، بحسب قولهم.&
&
وفي تصريح لـ"إيلاف"، قال القاضي محمد سليم المنضوي تحت محاكم جيش الفتح: "يتم العمل على تشكيل هيئة مركزية موحدة تتبع لها جميع المحاكم في إدلب، بعيدة عن اصدار الحكم الفردي، على أن تعتمد في حكمها على القانون بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية، وتتولى ذلك مجموعة من الاختصاصيين والشرعيين".
&
يبرز في القضاء العسكري، تحت ظل جيش القتح، دور عبدالله المحيسني، الذي يصفه مؤيدوه بأنه الرجل القضائي والعسكري، واعتُمد كشخصية توافقية في التحكيم، أجمعت عليه كل الكتائب لحل النزاعات بين الفصائل ووقف الاقتتال، حيث بدا ذلك في معظم نصوص الاتفاق، التي حصلت بين الفصائل بعد حدوث خلافات بينهم، إنتهت بالتصالح ووقف الاقتتال، من خلال تشكيل مجموعة من رجل الدين والعلماء، للبت في الموضوع، في حين ينتقد بعض العلماء، أمثال حسن الدغيم من جرجناز في ريف إدلب، تولي المحيسني كل المناصب العليا في جيش الفتح في القضاء والعسكرة، في إشارة إلى تفرده بالقرار، وعدم إتاحة الفرصة للكفاءات من حوله في تقلد المناصب الحساسة.
&
غياب للقضاة والمحاميين
يغيب المحامون والقضاة المنشقون عن نظام الأسد بشكل شبه كامل عن المحاكم والهيئات الشرعية، ويعاني قضاة المناطق المحررة الجدد من ضعف الخبرة. هذا ما أكده محمد أبو زيد، وهو قاض منشق عن نظام الأسد، بالقول: "الأصل في القاضي أن يدرس القانون لأربع سنوات، ثم يتابع في معهد القضاء، إذا حصّل نسبة نجاح معينة، وبإتمامه سنتين في معهد القضاء، يؤهل كمساعد في قضاء الصلح، وبعد ذلك يبدأ بالترفع، أي إن دراسة ست سنوات في القانون لا تؤهل للحكم في القضايا الجنائية، غير أن ما فعلته الهيئات الشرعية، وهو إرسال متدربين لدورات تدريبية لمدة شهر أو 45 يومًا يحكمون في قضايا الناس، يعتبر جريمة بحق القانون".
&
لا يخفي كثير من السوريين في المناطق المحررة قلقهم من إنحياذ المحاكم وفرض الهيمنة العسكرية عليها، في ظل قصف مستمر، إضافة إلى خشيتهم من تكرار تجربة محاكم نظام الأسد، القائمة على المحسوبيات وتطبيق القوانين واﻹحكام على الضعفاء فقط.
&
ويؤكد جميع من التقتهم "إيلاف" من المدنيين في المناطق المحررة على ضرورة وجود محاكم وقضاة مهنيين، في سبيل إحقاق العدالة وإبعاد المحسوبيات عن المحاكم، فالثورة السورية التي خرجت في وجه الظلم منذ خمس سنوات مطلبها الحرية.
&
ويروي أحد الموقوفين سابقًا في إحدى محاكم ريف إدلب لـ"إيلاف" أن الأحكام والقوانين لا تطبّق على جميع الناس، "بل هناك لصوص ومجرمون لا يستطيع أحد محاسبتهم، حتى وإن تم إيقافهم، يتم إخراجهم في اليوم التالي بالقوة من قبل الفصيل الموالين له"، الأمر الذي نفاه القائد العسكري في جيش الفتح أبو فيصل، بالقول: "الجميع يحاسب، وهناك قادة فصائل تم اعتقالهم ومحاسبتهم على ارتكاب الأخطاء".
&