هي مدينة سُويّت بالأرض، باتت معالمها شبه مفقودة، لا بيوت ولا أسواق ولا شوارع تضج بما تضج، حمص تحولت إلى شيء لا يُشبهها، ولا يشبه صخبها وتاريخها.

علي الإبراهيم: كنت جالسًا مع مجموعة من الشبان دخلوا في جدال حول مكان وزمان شريط مصور كان قد بث عبر مواقع التواصل الاجتماعي لدمار مدينة حمص، رغم أن الشريط حمل عنوانًا وزمانًا محدداً بشكل دقيق: "حمص اليوم-٢٠١٦". لكن يبدو من ملامح وجههم أنهم لا يريدون أن يصدقوا تلك المشاهد لمربى صباهم وسنوات ثورتهم.
&
بالقرب منا يجلس رجل يبدو عليه أنه تجاوز السبعين بكثير، يضرب الكهل جبهته بكفه ويمررها على شعره وهو يقول: "فعلها سفاح دمشق وعسكره، قالوها علنًا منذ اليوم الأول (الأسد أو نحرق البلد)، ها هم حرقوا ودمرا البلاد بالكامل، يا ألله، لقد ضِعنَا وضيعونا".
&
التفت نحو الشريط المصور مرة ثانية ليلقي نظرة خاطفة ثم عاد ليكمل حديثه: "تصوروا بربكم، ذلك الحي كنا نسكنه، وتلك المقبرة دفن بها عشرات الآلاف من الأبرياء، بالله عليكم كيف يسمح العالم لنفسه اليوم أن يفاوض عصابة مجرمة قتلت وشردت وهجرت ودمرت الملايين من السوريين؟".
&
بعد دقائق عرفت أن الرجل من مدينة حمص قدم لريف إدلب مع الخارجين من حي الوعر بهدنة في وقت سابق. ختم الرجل حديثه ببضع كلمات قبل أن يغلب عليه البكاء.
&


مدينة تلفظ أنفاسها
&
الشريط المصور كان لفيديو نشر منذ أيام عبر مواقع التواصل الاجتماعي، غير أن الصور التي يحملها الفيديو هي لبقايا منازل قديمة مهدمة وجدران لا يزال فيها آثار شظايا ورصاص وأبنية طابقية سويت بالأرض، إضافة لجدران بقي بعضها صامداً ليروي ما حدث، وعلى مقربة منها مقبرة ضمت آلاف القتلى الذين قتلتهم قوات الأسد منذ أذار (مارس) ٢٠١١، لحين خروج قوات المعارضة من مدينة حمص عبر اتفاق رعته الأمم المتحدة. إلا أن الفيديو كان يحمل دلالات عميقة لما أصبحت عليه مدينة حمص وسط سوريا من دمار وخراب.
&
فالشريط يقدم حقيقة ما جرى وراء أحداث كنا نعلمها. لكن يبدو أنه ليس مهماً دائماً أن نعلم ما حدث تمامًا، أو أن ندرك ما وراء الصور لكوننا سنجد جواباً لسؤالٍ مضنٍ أرهقنا حدّ الإعياء، لماذا لم يستطع كل هذا الدمار بهوله أن يحدث تغييراً جذرياً في الأحداث؟ كيف لم يستطع العالم رؤية معاناتنا كما ينبغي وكما تستحق؟
&
في الثامن من أيار (مايو) من العام الماضي، وفي الطريق إلى الصعود لحافلات خضراء، كان مقاتلو حمص القديمة يتقدمون بخطاهم الأخيرة نحو الخروج من المدينة، أبنية مهدمة وسيارات تعرضت إلى القصف، أو القنص، أكلها الصدأ، على مدخل حي الحميدية وحي الخالدية، محوري الاشتباك الأخطر والأعنف، خرجوا تاركين على شرفات منازلهم قصصًا شاهدة على شدّة القصف تارة، وطوراً على انهيار المنازل التي دفن اصحابها تحت الأنقاض.&
&
كان ذلك أول مشهد للخارجين من حمص القديمة وقتها لتغط المدينة في ثبات عميق دون معرفة حالها بشكل تام، رغم القصص التي نقلها الخارجون من المدينة، لكن يبقى من يسمع ليس كمن يرى.
&

خراب تام
&
اليوم تحولت البيوت في حمص إلى أطلال وركام، والشوارع باتت خالية من البشر وتحولت إلى فضاء تمرح فيه الأشباح، بعد مئات الآلاف من الجرحى، ومئات الآلاف من القتلى المدنيين، وملايين اللاجئين والنازحين. فلم يتبق من المدينة العريقة إلا هذه الصور المحزنة، صورة أخرى - وليست أخيرة - للخراب والدمار الذي ضرب سوريا، وما آلت إليه مدينة حمص التي كانت تعرف باسم "عاصمة الثورة" اليوم، ها هي حمص، ثالث أكبر مدينة في سوريا، تتحول إلى خراب تام، بكل ما في الكلمة من معنى!. والعالم ومن خلفه الإنسانية يشاهد بصمت ويقلق لما حدث ويحدث!.
&
نجح بشار الأسد ومن معه من ميليشيات باستخدام عملية تدمير المدن لتهجير سكانها باستخدام البراميل المتفجرة، والدبابات والصواريخ، وحصار المدن وتجويعها وذلك بدافع انتقامي ضد الشعب الرافض له، مما زاد من عمليات تفريغ المدن فقد كان خروج المقاتلين ومن قبلهم المدنيون من حمص القديمة هو أخطر ما مرت به سوريا &وهو عملية الإخلاء الإجباري للسكان وترحيلهم خارج البلاد، وتفكيك الكتلة السكانية التي وقفت عبر التاريخ أمام الغزاة. وللأسف لم تحظَ عملية تفريغ سوريا من سكانها بالاهتمام الكافي، بل هناك من يساهم في عملية التهجير بدوافع إنسانية دون الوقوف ضد عملية التدمير الممنهج كما يبين الشريط من حجم الدمار والخراب وذلك لإجبار السوريين على ترك أراضيهم.
&
يقودني حديث الشريط المصور مع الشبان إلى موضوع المفاوضات. يتأسف بعضهم على ما يجري ويعود بذاكرته إلى البدايات: "لقد كان مطلبنا منذ اليوم الأول واضح وهو إسقاط النظام، عن إي مفاوضات يتم الحديث والبلد هدمت والبشر هجرت، اليوم بتنا خارج مدينتا التي سلبوها ولن تعود سوى بقوة السلاح".
&
تلك المشاهد تعود بذاكرتي إلى حصار أحياء حمص القديمة البالغ عددها 14. حصار دام وقتها لأكثر من عامين، قُطعت خلالها قوات الأسد الكهرباء والماء ومُنع إدخال المواد الغذائية إليها، بعدها تم توقيع هدنة يتم بموجبها خروج جميع المقاتلين من المدنية وتدخل قوات النظام مكانهم. هدنة أبرمت برعاية أممية وبوجود مندوبين عن النظام وإيران.
&
وقتها اتهمت المعارضة العالم والإنسانية بالعار والوقوف ضدهم وتركهم يموتون قصفًا وحرقًا وجوعًا، وإن ما حدث في حمص من دمار وخراب وتهجير سيتكرر في كل شبر من سوريا إن لم يحصل تحرك، وهو بالفعل ما يحدث اليوم وبشكل علني من شمال البلاد لجنوبها وصولا للساحل. هذا ما أكده عمر سقي قائد ميداني خرج من حي الوعر منذ فترة باتفاق مشابه الى ريف إدلب بالقول: "كانت آخر ورقة لدينا لنعيد ترتيب أمورنا في الريف بعد أن خذلنا العالم كله، خرجنا من حمص، ويبدو أننا لن نعود اليها قريبًا، لقد تحولت لمستوطنة ايرانية، واليوم تتحول سوريا كلها لحمص ثانية، ماذا ينتظر العالم أكثر من ذلك حتى يخلصنا من هذه العصابة".
&
يعيد الشبان مشاهدة الشريط عدة مرات، قبل أن يقطع سلسلة حديثنا صوت غارة جوية في المنطقة لصاروخ طائرة دمرت بناء بالكامل، قتل على اثرها ثلاثة والبعض&لا يزال تحت الأنقاض لحين كتابة هذا التقرير. غارة جوية تذّكر الجميع أن دمار مدينة حمص وغيرها باقٍ ما بقي الأسد وعسكره، وأن الحرب السورية&لا تزال مستمرة.

&