كان الحدث الأكبر في السياسة الأميركية خلال السنوات الخمسين الماضية صعود اليمين، وما اقترن به من قصص المرتدين. وفي كل مرحلة من مراحل مسيرة المحافظين إلى السلطة كان مرتدون من اليسار يقدمون إليهم مساعدة حاسمة.


إعداد عبدالاله مجيد: رفض تقدميون سياسة روزفلت الجديدة، وأصبحوا رجعيين وشيوعيين سابقين، ساعدوا على إطلاق مجلة "ناشيونال ريفيو" اليمينية إبان الخمسينات، واشتراكيين بادروا إلى تأسيس حركة المحافظين الجدد في الستينات والسبعينات. &

بين القلب والعقل
انقلب راديكاليون من اليسار الجديد على رفاقهم وعلى أنفسهم في سنوات الرئيس رونالد ريغان. وكان الأخير نفسه ليبراليًا، ثم بلغ الاتجاه المحافظ الجديد أعلى ذرواته في سنوات رئاسته.&
&
التفسير الأكثر شيوعًا هو التفسير الذي يُنسَب أحيانًا إلى تشرتشل وأحيانًا إلى كليمنصو وأحيانًا أخرى إلى لويد جورج. وبحسب هؤلاء أيًا يكن صاحب التفسير، فإن "أي رجل لا يكون اشتراكيًا في سن العشرين هو رجل بلا قلب، وأي رجل يبقى اشتراكيًا في سن الأربعين هو رجل بلا رأس".&
&
بذلك يكون الانتقال إلى معسكر اليمين مؤشر نضج وحكمة اكتُسبت مع تقدم العمر واتساع الخبرة أو ربما مع قسوة القلب وقوة الأحلام، التي تقترن بالاستقرار والنجاح في الحياة. علق التروتسكي السابق آيرفنغ كريستول قائد الاتجاه المحافظ الجديد قائلًا إن المحافظ الجديد "ليبرالي هاجمه الواقع". &
&
لا يكون التحول ملحوظًا على الغالب إلا بعد أن تكشفه أزمة مثل حدوث اصطفافات سياسية كبرى تجبر السياسي على الانتقال من معسكر إلى آخر. وعندما يحدث ذلك فإن المرتدين عادة يلقون باللائمة على الفكر الذي اعتنقوه سابقًا. ويُنقل عن عضو الكونغرس الاشتراكي السابق جورج هادلستون قوله في تبرير انتقاله إلى اليمين إن الفكر الاشتراكي هو الذي تغيّر، وعن ريغان قوله "أنا لم أترك الحزب الديمقراطي، بل الحزب الديمقراطي هو الذي تركني". وتشبّه مجلة نيويوركر ذلك بأنه "كالزوج الذي يلوم زوجته على خيانته الزوجية".
&
خيبة الأمل منعطفًا
نشر في عام 1950 كتاب "الإله الذي فشل"، الذي يروي فيه شيوعيون سابقون، بينهم أندريه جيد وآرثر كوستلر وريتشارد رايت، كيف أنهم نشأوا في عالم تمزقه الأزمات، فوجدوا معنى في الماركسية، وهوية في الحزب، وإلهامًا في الاتحاد السوفياتي، إلى أن أُصيبوا تدريجيًا بخيبة أمل، دفعتهم في النهاية إلى القطيعة مع الشيوعية. ولا يكون هناك سبب واحد لتغيير موقف النابذ، بل تتضافر عوامل وخبرات حياتية مختلفة، عادة تقنعه بالانتقال إلى الجانب الآخر. &وفي بعض الحالات كانت الخبرة شبيهة بمراقبة حياة سابقة تحتضر.&
&
بعد عامين، في 1952، صدر كتاب "شاهد" بقلم ويتكير تشامبرز، أكثر الشيوعيين السابقين عذابًا في القرن العشرين. أعقبه كتاب دانيل أوبنهايمر عن ستة يساريين نبذوا اليسار. &
&
أراد أوبنهامير أن يعرف لماذا يعتنق الأشخاص الأفكار السياسية التي يعتنقونها، وكتب ان قصص الارتداد عنها "تستحق أن تُروى، لأن فترات الانتقال السياسي هي التي تُكسَر فيها عظام منظومة الشخص العقائدية، وتخرج من جسمه، وتصبح ظرفية المعتقد وتعقيده مرئيين". ويرى مراقبون أن أوبنهايمر لم يجد إجابة عن سؤاله، وأن كتابه أقرب إلى "التأريخ" وكتابة سيرة حياة المرتدين الستة منه إلى النظرية& السياسية والتحليل النفسي.&
&
تقلبات وانقلابات
إضافة إلى هؤلاء، هناك جيمس برنهام الفيلسوف التروتسكي، الذي أصبح رئيس التحرير المؤسس لمجلة "ناشيونال ريفيو" اليمينية، ورونالد ريغان الذي بدا أقرب إلى التيار الرئيس من الآخرين، ونورمان بودهوريتز، الذي قاد مجلة "كومينتري" إلى اليسار، ثم أخذها معه إلى اليمين حين انقلب على اليسار، وديفيد هوروفيتز، الذي كان والداه شيوعيين، وارتبط بعلاقة وثيقة مع حركة الفهود السود، إلى أن ارتمى في أحضان الريغانية هربًا من عنفهم، وكريستوفر هيتشينز، الذي ينتمي إلى خانة أخرى، لأنه لم يكن يساريًا تقليديًا، ولم ينسجم تمامًا مع أصدقائه المحافظين الجدد في العقد الأخير من حياته.&
&
وقاد التروتسكيون الأميركيون بعض الإضرابات العمالية، لكن نشاطهم الرئيس كان على الورق بالكتابة والسجالات والصراعات الحزبية والخلافات على توصيف الاتحاد السوفياتي، وما إذا كان دولة عمالية منحطة أو دولة بيروقراطية. &
&
وحين بدأ تروتسكيون كبار، بينهم الكاتب ماكس إيستمان، يبتعدون عن الماركسية نحو "الليبرالية والأخلاق البورجوازية" في أواخر الثلاثينات، شنّ جيمس برنهام حملة شعواء عليهم، معبئًا لها كل قدراته الفكرية. والمفارقة أنه نفسه بدأ يضع الديالكتيك الماركسي موضع تساؤل وقتذاك.&
&
طوباوية مدمرة
في عام 1983 أصدر الرئيس ريغان قرارًا بمنح برنهام، الذي كان في سنواته الأخيرة، وسام الحرية، أعلى الأوسمة المدنية في الولايات المتحدة. وفي عام 1984 منح الوسام إلى تشامبرز بعد وفاته.&
&
وقال ريغان إن تأثيرهما عليه وعلى السياسة الأميركية كان كبيرًا مع كتابات أوبنهامير، التي كان يحفظ مقاطع منها، ويقتبسها ويستخدمها بصيغة أخرى في خطاباته. ويروي أوبنهايمر قصة ريغان حين كان شابًا متحمسًا لأفكار روزفلت وحياته، حين كان قائدًا نقابيًا في هوليود، وانتقاله إلى اليمين حين كان يعمل في شركة جنرال إلكتريك، وفي ذلك الوقت بدأت علاقته بأعداء الشيوعية. &
&
يعزو ريغان انقلابه إلى رفض الليبراليين إيمان روزفلت بحكمة الشعب الأميركية، وتسليمهم السلطة إلى مهندسي الحكومة. ويكتب جورج باكر في مجلة نيويوركر إن هذه نظرة غير تاريخية، لأن روزفلت سمح لشيوعيين، مثل آلغر هيس، بالعمل معه، حتى بعد اتهام هيس بالغدر مع تشامبرز، وإن روزفلت كان أقوى إيمانًا بدور الدولة في الاقتصاد والمجتمع من الديمقراطيين في عهد آيزنهاور. &
&
يلاحظ باكر أن هناك في الولايات المتحدة اليوم رعيلًا جديدًا من الكتاب، الذين بدأوا يعبّرون عن خيبة أملهم، لكن هذه المرة خيبتهم باليمين، وأن الانحدار من ريغان إلى دونالد ترامب جرف معه مثاليين شبابًا ظنوا أنهم انضموا إلى جانب الحرية والحقيقة، ثم أدركوا متأخرين أنهم التحقوا بركب علم زائف وسياسة الهوية البيضاء، وإن رؤية المرشح الجمهوري المحافظ تيد كروز مثلًا تتطلب الإطاحة بكل ركن من أركان الصرح الاجتماعي والاقتصادي للولايات المتحدة. ولا يحتاج المرء أن ينظر بعيدًا ليرى الطوباوية المدمّرة التي تحول أصحاب العقائد إلى مرتدين.&
&
&
.
&