بعد امضاء الاتفاق بين تركيا والاتحاد الاوروبي بشأن المهاجرين في السابع من شهر (مارس) اذار من العام الحالي، قال احمد داوود اوغلو، رئيس الحكومة التركية، باسما وهادئا إن بلاده ترغب في ان تكون "بيتا لكلّ الضحايا". ثم اضاف قائلا: ”علينا ان نواصل العمل من اجل الانسانية، وكرامة المهاجرين. وانا امثل امة تحمي النساء والاطفال". وفي هذه الكلمات القليلة اكثر من معنى واكثر من رسالة موجهة بالخصوص الى الدول التي لا تزال تعارض انضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي، منتقدة سياستها الداخلية في مجالات متعددة، وتحديدا في مجال حرية التعبير، وحرية المرأة في ظل حكم حزب لا يخفي توجهاته الاسلامية.
&
كما ان هذه الكلمات تنبه الاوروبيين الى ان تركيا لم تعد ذلك "الغول" المخيف الذي كان يرعبهم، ويهددهم بغزوات دموية خلال فترة حكم الامبراطورية العثمانية، وانما دولة مسالمة ومتحضرة تعمل على ان تعيش في امن وسلام مع جيرانها، ودائما على استعداد لخدمة المبادئ الانسانية السامية. وفي جميع الصور التي ظهر فيها وهو يتحدث الى المستشارة الالمانية انجيلا ميركل أو الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، أو مصافحا السيد دونالد توسك، رئيس الاتحاد الاوروبي، حافظ السيد احمد داوود اوغلو الذي يتكلم الالمانية، والانكليزية، والعربية والمالوية، على تلك الابتسامة التي تعبر عن منهجه الدبلوماسي الذي يتميز بالاعتدال، والانفتاح، والرغبة في الحوار من اجل ايجاد حلول لأشد القضايا تعقيدًا وعسرا. وتظهر معالم هذا المنهج في الكتاب الذي اصدره قبل سنوات، وترجم الى العديد من اللغات حاملا عنوان: "العمق الاستراتيجي"، وفيه رسم صورة واضحة لما سماه بـ "الدبلوماسية الوقائية"، التي تعتمد على اركان ثلاثة هي: السلام والحل والوساطة. ومعنى هذا ان السيد احمد داوود اوغلو الذي يتمتع بثقافة واسعة يرى انه بإمكان الدول ان تتجنب الحروب والنزاعات المدمرة ان هي اختارت دبلوماسية وقائية تقوم على الاركان المذكورة...
&
وكان مولد السيد احمد داوود اوغلو في وسط تركيا عام 1959. وكان سكان هذه المنطقة التي تنتصب فيها جبال "التوروس" التي خلدها يشار كمال في روايته الشهيرة "محمد النحيف"، وفي العديد من رواياته الاخرى، يتصفون بالخشونة والعنف، ولا يترددون في التقاتل حتى من اجل اسباب تافهة. ويبدو ان الفتى احمد نفر من كل هذا مبكرا. لذا سوف يسعى الى ان ينحت شخصيته بعيدا عن تأثيرات طبائع اهل منطقته، وفي تناقض واضح معها. وقد ساعدته في ذلك سنوات الدراسة الثانوية في المدرسة الثانوية الالمانية في اسطنبول في السبعينات من القرن الماضي. والواضح انه تجنب التورط في الصراعات الايديولوجية المختلفة والمتعددة التي تميزت بها تركيا في هذه الفترة من تاريخها. فقد أدى التناحر المستمر بين مختلف التيارات السياسية الى تدهور الاوضاع الاقتصادية بشكل خطير، الى اضطرابات اجتماعية وسياسية متواصلة، والى أعمال عنف ارتكبها يساريون ويمينيون متطرفون. وقد استغل الجيش كل هذا ليدبر انقلابين عسكريين. الاول في عام 1971، والثاني في عام 1980. ومن المؤكد ان الشاب الرصين احمد داوود كان يتابع الاحداث باهتمام كبير، مستخلصا منها العبر، ومتعظا بدروسها من دون ان يغفل عن مواصلة دراسته، بجدية&كانت تثير اعجاب اساتذته وزملائه. وبعد حصوله على شهادة دكتوراه في العلوم السياسية والاقتصادية، وفي الادارة العامة، انطلق الى ماليزيا ليعمل استاذا في الجامعة الاسلامية الدولية التي كانت مركزا علميا مهما يضم نخبة من كبار الاساتذة في مختلف الاختصاصات.
&
وفي هذه الجامعة لمع احمد داوود اوغلو، وكسب اعجاب وتقدير طلبته وزملائه. الاّ ان التدريس في الجامعة لم يصرفه عن دراسة التجربة المتميزة لمهاتير محمد، رئيس الوزراء الماليزي الذي تمكن من ان ينقل بلاده من الفقر المدقع الى الرفاهية الاقتصادية، هو الذي بدأ حياته بائع موز، ثم حكم بلاده على مدى اربعين عاما وبعدها ترك كرسي الحكم عن طواعية معطيا درسا ثمينا لحكام دول العالم الثالث الذين يظلون متشبثين بالسلطة الى ان يقتلوا او يطردوا منها بالقوة. وفي عام 2002، شغل منصب كبير المستشارين في حكومة رجب اردوغان، ثم سفيرا متجولا، ثم وزيرا للخارجية. وجميع هذه المناصب الرفيعة اعلت من شأنه داخليا وعالميا، واكسبته المزيد من التجارب المهمة لاثراء دبلوماسية الوقائية الباسمة التي اثبتت نجاعتها في ايجاد الحلول المناسبة للعديد من القضايا المعقدة مثل قضية اللاجئين راهنًا...

&