في البلدان القليلة التي شهدت تغييرا في القيادة السياسية نتيجة ما عرف بالربيع العربي، لم تبذل الحكومات الجديدة الكثير لتلبية مطالب الشعب في تحقيق العدالة في الجرائم التي وقعت في عقود من الديكتاتورية. لكن التونسيين يأملون في أن يكونوا استثناء عن هذه القاعدة بعدما أعدوا برنامجا قانونيا رائدا لتحقيق العدالة. وفي عام 2013، أقرت تونس قانون شاملا للعدالة الانتقالية يوصف بأنه أول قانون من نوعه في العالم. وتمخض عن هذا القانون هيئة الحقيقة والكرامة، التي تعكف على مراجعة آلاف القضايا بشأن انتهاك حقوق الإنسان على مدار ستة عقود. فهل نعتبر هذا مجرد أمر رمزي وعملية طويلة من الاعتراف، أم أنها ستسفر عن نتائج حقيقية للشعب التونسي؟ وتوجهت "سيدة سيفي" إلى غرفة معيشتها، لتجر خلفها نقالة لحمل المصابين ضعف حجمها تقريبا وحقيبة سفر. وداخل الحقيبة تذكارات تعيد الحزن والغضب وأسى لا يمحوه العزاء. واحتفظت سيفي بكل شيء منذ اليوم الذي مات فيه ولدها، الرداء الذي لفه وهو ملطخ بالدماء، وقميصه وبه ثقب رصاصة، وزي جديد خاص بمحطة الوقود التي كان يعمل بها. وأسرة السيدة سيفي واحدة من آلاف الأسر التي تقدمت إلى هيئة الحقيقة والكرامة لبحث حالتها. شكري سيفي كان يبلع من العمر 19 عاما عندما قُتل بالرصاص في تظاهرة مناهضة للحكومة في ضاحية الكرم الفقيرة في العاصمة، تونس. ويعتقد أن الشرطة هي من فتحت النار على التظاهرة. وكانت ضاحية شكري واحدة من البؤر الساخنة لتظاهرات 2011 التي أدت إلى إنهاء حكم الرئيس زين العابدين بن علي، والذي استمر 23 عاما. وقُتل العشرات وأصيب العشرات من المتظاهرين جراء إطلاق الرصاص الحي. وقمعت قوات الأمن بعنف المتظاهرين في الضاحية التي لا تبعد سوى مسافة قصيرة من القصر الرئاسي في قرطاج. وأخبرني سكان المنطقة أنهم "يشعرون بالعزلة والاستفزاز" من السلطات حتى الآن. وأخبرتني السيدة سيفي أنه لا يمكن لشيء أن يعوض خسارتها ولن تسامح قتلة ابنها أبدا. لكنها مع هذا تطلب تعويضا ماليا، حتى لو لم تكن متفائلة بتحقيق العدالة. وتقول :"لا تستطيعين تخيل كيف تكون رؤية هؤلاء الذين قتلوا ابنك أو زوجك يسيرون حولك وأمامك." في تونس "سيسجنون أي شخص لمجرد القبض عليه يدخن الماريجوانا، لكنهم لا يسجنون القتلة." وسمحت الانتفاضة التي أطاحت بالحكم الديكتاتوري في تونس للمواطنين في مختلف أنحاء البلاد بالكشف عن الاعتداءات التي تعرضوا لها والمطالبة بالتعويض. قدنا السيارة خلف حافلة صغيرة أرسلتها هيئة الحقيقة والكرامة إلى قرية نفزة، شمال شرقي البلاد بالقرب من الحدود الجزائرية. يجمع العاملون بالهيئة شهادات للمجموعة النهائية من الشهادات قبل الموعد النهائي المقرر في 15 يونيو/ حزيران، ويصلون إلى الضحايا غير القادرين على الذهاب إلى مكاتبهم في العاصمة تونس للإدلاء بشهاداتهم. وتقع نفزة في أسفل تل كبير تغطيه الغابات. وهناك حالة من الغضب بين السكان بسبب الاعتداءات التي تعرضوا لها سابقا واستمرار الفشل الاقتصادي. وتجمع حشد من الناس سريعا حول الوحدة المتنقلة، وكان هناك استعداد لتقديم المطالب. وتمثلت غالبية الحالات في تلك القرية الريفية في مصادرة الدولة لأملاك المواطنين من أجل تشييد سد قبل 16 عاما. وقال لي محسن حابوبي :" يجب أن تخبري العالم أن نفزة تعرضت للعقاب ومازالت تدفع الثمن في ظل كل حكومة تصل إلى السلطة، وعادت البرجوازية للسلطة مرة أخرى." وقال إنه كان عضوا في حركة اتحاد الطلبة عام 1979، عندما ألقت السلطات حوالي 400 شاب وفتاة في السجون. وفي الطريق تقابلت مع حكيم سويسي صاحب مطعم وسجين سياسي سابق ينتمي لحزب النهضة الإسلامي المعتدل، والذي كان محظورا. إنه يريد العدالة مقابل ثلاث سنوات قضاها خلف القضبان في فترة التسعينيات. وكشف عما حدث له وإصابته بحالة شبه صمم بسبب الضرب الذي تعرض له في السجن. ويقول :"جردونا من ملابسنا وأخرجونا ونحن لا نرتدي سوى سروال قصير (شورت) وضربونا بهروات من الخيزران وكانوا يعرضوننا للإيهام بالغرق على مدار أسبوعين." ويريد سويسي تقديم هؤلاء الذين اعتدوا عليه للمحاكمة. ويضيف :"من عذبني لا يزال في تونس حتى الآن، ومازال يعمل في الأجهزة الأمنية.. بل إنه حصل على ترقية." وفي وسط مدينة تونس، تتدفق ملفات الضحايا باستمرار على مقرات هيئة الحقيقة والكرامة كل يوم. وجزء من مهمتها يتمثل في إعادة تأهيل الضحايا وطلب الصفح بالنيابة عن الدولة. تبحث الأجيال عن إجابات، من بينهم مكرم هاجري، الذي كان عضوا في حزب العمال الاشتراكي في مطلع التسعينيات. جذب يدي ووضعها على رأسه، وسألني "هل تشعرين بهذا؟" ووضع يدي فوق نتوء على جمجمته، "إنه من أثر السجن." حتى بعد الإفراج عنه يقول هاجري إنه لم يكن مسموحا له الحصول على بطاقة هوية وطنية (بطاقة شخصية) حتى عام 2006. وتحتوي غرف أرشيف الهيئة على أكثر من 33 ألف حالة تمتد من الفساد الاقتصادي إلى انتهاكات حقوق الإنسان ضد الرجال والنساء والأطفال. وتعرضت رئيسة الهيئة، سهام بن سدرين، للسجن في عهد الرئيس الأسبق، زين العابدين بن علي، لعملها السابق كناشطة في مجال حقوق الإنسان. لكن حتى عملها السابق لم يجعلها تتوقع هذا الطوفان من الحالات ومدى الممارسات القمعية من جانب الأجهزة الأمنية. وأخبرتني أن المفاجأة الكبرى في العملية الجديدة هذه كانت عدد الاعتداءات الجنسية ضد النساء والأطفال. لكن السيدة بن سدرين على ثقة بأنهم سوف ينجحون، رغم الانقسامات الداخلية في الهيئة والتي تعكس أحيانا المظهر السياسي الذي لم يتغير أبدا في البلاد. وتقول :"التحدي الأكبر أمام هيئة الحقيقة والكرامة يتمثل في مواجهة الدولة العميقة التي تقاوم التغيير وجميع أنواع الإصلاح، لأنها لا تريد محاسبة المسؤولين عما فعلوه في السابق." وكانت الاعتداءات ممنهجة في تونس لعقود، لكن هناك أمل لدى الضحايا في أن هذا البرنامج سوف يقدم لهم الحل الذي يبحثون عنه. وإذا ما نجحت تونس في إجراء تلك الإصلاحات المؤسسية، فإن الدولة ستكون هي من تحمي شعبها بدلا من الاعتداء عليه.
- آخر تحديث :
التعليقات