يريد دونالد ترامب إعادة الولايات المتحدة إلى توافق نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، أكد أن ليس مهمة الرؤساء الاميركيين تمثيل العالم بل تمثيل الولايات المتحدة الأميركية، احترام سيادة الولايات المتحدة وحماية مصالحها، لا مصالح المجتمع الدولي. أليس هو رافع شعار "أميركا أولًا"؟
&
إيلاف من واشنطن: لم نشهد حتى الآن وقفة جدية من محلل عربي أو مؤسسة بحوث عربية تدرس كيف ينظر الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى السياسة الاميركية الجديدة التي سينتهجها، وأسلوب تعامله معها. تستعرض الدراسة الآتية من مركز المصلحة الوطنية كيف ينفذ ترامب سياسته الخارجية. ومن الضروري أن يقرأ صانعو السياسة والأكاديميون والصحافيون العرب هذا التحليل لفهم إدارة ترامب. والجدير بالذكر أن في مركز المصلحة الوطنية ألقى ترامب كلمته في شأن السياسة الخارجية حين كان مرشحًا للرئاسة في الصيف الماضي.
&
انعطاف نحو المحافظين
بحسب الرأي الشائع بين العلماء والخبراء السياسيين، فإن التغيّرات التي تحدث في السياسة والتوافق السياسي الذي تقوم عليه إنما هي حصيلة سلسلة من معارك الأفكار. ويشير هذا الطرح إلى أن الخطاب السياسي الأميركي الوسطي ينعطف باتجاه يميني منذ ما يُسمى ثورة ريغان، مغيرًا معالم هذا الخطاب ومكرسًا أفكار السوق الحرة التي كانت تُعد غير مناسبة.
مع انعطاف الوسط السياسي نحو الجانب المحافظ، أخذت وصفات السياسة الليبرالية توصم بـ "الإشتراكية"، حتى أن الديمقراطيين أُجبروا على السير في هذا الاتجاه من خلال ما يُسمى "الكلنتونية".
في الحقيقة، بدأت الجهود الرامية إلى رفع الضوابط عن الاقتصاد وخفض الضرائب على الشركات في عهد الرئيس جيمي كارتر إبان الثمانينيات، ردًا على الركود الاقتصادي، لأسباب منها كثرة الضوابط وثقل الضرائب على الشركات. وكان إتّباع هذه السياسات الجديدة مسؤولًا عن انعطاف الوسط السياسي نحو اليمين، لا العكس.
وعلى الغرار نفسه، فإن الوسط السياسي لم يبدأ بالإنعطاف نحو اليسار في عهد الرئيس باراك اوباما، بل أن علاجاته السياسية التي تضمنت توسيع دور الحكومة في الاقتصاد لم تكن محاولة لاطفاء الثورة الريغانية المتخيلة بقدر ما كانت تهدف إلى تعديل بعض عناصر ثورة كاتر - ريغان - كلنتون. وكان ذلك توجهًا سليمًا بعد تداعيات الأزمة المالية في عام 2008، وما ترتب عنها من ركود عميق.
&
مشكلات حقيقية
بما أن بعض البرامج التي واصل أوباما تنفيذها، مثل إنقاذ صناعة السيارات، بدأ في السنة الأخيرة من ولاية سلفه الجمهوري، فإن كثيرًا من النقاش الاقتصادي خلال انتخابات 2016 كان يتمحور حول ما إذا كانت ثورة اوباما - بوش ناجحة أملاً. ومن اعتبر هذه السلسلة من السياسات فاشلة، فإنه ساعد على الأرجح في انتخاب دونالد ترامب رئيسًا.
في الحقيقة، أغلبية التغيّرات التدريجية التي تحدث في السياسة والاقتصاد الأميركيين أو السياسة الخارجية تحديدًا تشكل ردودًا عملية على مشكلات حقيقية في مجال صنع السياسة، ولا تشير بالضرورة إلى انتصار فلسفة سياسية معينة. فالأميركيون لا يحبون الأفكار الكبرى، وهم يميلون إلى انتخاب رؤساء يستطيعون حل المشكلات وتحقيق الانجازات.
صحيح أن الرؤساء يميلون إلى استخدام خطابية انشائية رنانة في إطار سعيهم إلى تسويق أفكارهم، وأن المفكرين داخل الإدارات وخارجها يحددون إطار المناظرات السياسية وما يعقبها من تغيّرات في السياسة تحدث نتيجة صراعات بين الأفكار، وعلى هذا الأساس فإن "الريغانية" انتهت موضتها وجاءت الآن موضة "الترامبية". لكن، في "العالم الواقعي الملموس"، السياسات التي تتضمن الكثير من المقايضات والمساومات لا تشبه الصورة المثالية في الأذهان.
&
الخيار العام
كما تشير نظرية الخيار العام، فإن لأصحاب الأفكار مصلحة في الإيحاء بأن الأفكار حقًا تُحدث تغييرًا. فمَنْ سيوظفهم ويطلب خدماتهم إذا لم تكن هذه هي الحال؟ لكنّ المفكرين في أحسن الأحوال يساعدون الرؤساء على تحديد مجموعة من السياسات التي كانوا سيعتمدونها في كل الأحوال وتنفيذها، مثلما ساعد هنري كيسنجر الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون على بناء طرائق الإنفراج مع الصين والانفتاح عليها، الأمر الذي كان أصلًا في ذهن نيكسون حين تولى الرئاسة.
لكن، منذ نهاية الحرب الباردة، بدا أن الليبراليين الأمميين أو المحافظين الجدد على السواء هم الذين يكتبون خطاب السياسة الخارجية الأميركية، وأن سلسلة من السياسات التي عملت على تسريع انفتاح التجارة العالمية والاستثمار والهجرة والثقافة وساعدت في خدمة مصالح افراد النخب السياسية والرأسمالية، بقيت في نظر نخب السياسة الخارجية جزءًا من سيناريو الصراع بين الخير والشر. كان ذلك يقوم على أساس فكرة مفادها أن الموقع الدولي للولايات المتحدة سيتحدد بنجاحها في تسويق أنموذجها السياسي والاقتصادي عالميًا في أشكال مثل أجندة الحرية وتغيير الأنظمة وبناء الدول. يقول كثير من معارضي هذه الأفكار الفاشلة إن أجندة ترامب في السياسة الخارجية تتحدد بأفكار راديكالية مثل القومية والانعزالية. وتسعى الترامبية، على ما يُفترض، إلى محق الأفكار الليبرالية التي كانت ركيزة النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية والنظام الذي نشأ بعد الحرب الباردة.
&
استخدام القوة العسكرية
لكن هذا النقد ليس خاطئًا ومضللًا فحسب، بل هو انتهازي أيضًا. في الحقيقة، إن الأفكار التي قُدمت في السنوات التي أعقبت نهاية الحرب الباردة وجُمعت تحت راية "العولمة" حاولت تغيير بل حتى تثوير المبادئ التي قام عليها النظام الدولي ما بعد الحرب العالمية الثانية، بالدعوة إلى استخدام القوة العسكرية الأميركية لتغيير الأنظمة السياسة والاقتصادية في دول قومية أخرى، واعتماد الفكرة القائلة إن تحرير التجارة الدولية هي أولوية في سلم المصالح الاقتصادية الأميركية الملموسة، إلى جانب رفع المزيد من القيود على الهجرة إلى الولايات المتحدة التي لا تعتبر نفسها دولة قومية ذات سيادة بقدر ما هي فيدرالية من الجماعات الاثنية والعرقية والثقافية.
تخيلوا عالمًا بلا دول، عالمًا ليس فيه ما يُقتل أو ما يستحق الموت من أجله، وعالمًا بلا أديان، وشعوبًا تعيش بسلام في عالم بلا حدود ومتعدد الثقافات وفي اقتصاد عالمي واحد متكامل.
كانت هذه المجموعة من الأفكار تبدو خيالية وتدميرية ايضًا بنظر كل رئيس أميركي خلال العقود الخمسة الأولى بعد الحرب العالمية الثانية، وكان دعاتها أعضاء في تنظيمات سياسية هامشية. لكن هذه الأفكار نفسها اصبحت موضع احتفاء بوصفها التوافق الجديد على السياسة الخارجية في واشنطن، وساعدت على تبرير السياسة باهظة الثمن والمدمرة بما كلفته من موارد مالية وأرواح للولايات المتحدة وبلدان أخرى.
في نوفمبر 2016، كانت رسالة الأميركيين الذين انتخبوا ترامب رئيسًا جديدًا لهم رسالة واضحة. فهم رفضوا السياسات القائمة على أساس التوافق الذي اعتمدته مؤسسة الخارجية الاميركية في واشنطن والتي تعهد الرئيس الجديد بتحدّيها.
&
تهدد المعايير الأميركية
ليس هناك ما هو راديكالي في ما اقترحه ترامب. فهو ليس معنيًا بالأفكار الكبرى، بل يدعو إلى العودة إلى التوافق الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، وفي ظله ما كانت مهمة الرؤساء الاميركيين "تمثيل العالم" بل "تمثيل الولايات المتحدة الأميركية"، على حد تعبير ترامب في خطاب أخير ألقاه امام الكونغرس. وتشكل التغييرات التدريجية التي يقترحها ترامب في السياسة ردودًا عملية على مشكلات حقيقية.
من المذهل تمامًا أن أفكارًا أساسية كهذه استرشدت بها أغلبية الرؤساء الأميركيين، مثل احترام السيادة الوطنية للولايات المتحدة والدول الأخرى وضرورة حماية المصالح القومية الحيوية للولايات المتحدة، لا مصالح "المجتمع الدولي"، وإبقاء القيود على الهجرة، وانتهاج سياسات تجارية لا تضر بالمصالح الاقتصادية الاميركية، تتعرض اليوم للهجوم في واشنطن بوصفها أفكارًا غير مقبولة، وتشكل تهديدًا للمعايير الليبرالية الاميركية.
لكن هذا النقد اللاذع الذي يوجهه اشخاص ما زالوا يتمسكون بأفكارهم المفلسة ولديهم مصالح مؤسسية وشخصية خاصة في الإبقاء على الوضع القائم، يجب ألا يثني ترامب. وفي نهاية المطاف، فإنه سيغير السياسة الخارجية الاميركية أيضًا من طريق ترويج سياساته وتنفيذها بنجاح.
&
&
&
التعليقات