الرباط: يتداول الوسط الثقافي والإعلامي المغربي وعلى نطاق يتسع منذ أشهر، قضية لم تكن تناقش في الماضي بمثل الاهتمام الذي اكتسبته في غضون الأسابيع الأخيرة .

يتعلق الأمر بمرفق ثقافي رمزي رفيع اسمه المكتبة الوطنية للمملكة المغربية ( تسميتها الرسمية الكاملة ) التي مضى عليها حوالي سنتين ونصف سنة دون أن تنتبه السلطة الحكومية ممثلة في شخص وزير الثقافة السابق، إلى ضرورة فتح باب الترشح في الوقت المناسب،أمام الراغبين المؤهلين لتقلد المنصب ، الذي يؤتمن من يتولاه على مخزون الذاكرة &الثقافية للأمة المغربية؛ وهي تقترب من إكمال قرن على تأسيس نواتها الأولى، في ظل الحماية الفرنسية عام 1916 بعد أربع سنوات فقط على بسط نفوذها الاستعماري على المغرب عام 1912.

ولما أسندت للوزير الحالي وزارتا الثقافة والاتصال، وجد نفسه ، وهو القادم من التدريس بالجامعة ( كلية الحقوق) أمام ملفات كثيرة صعبة وعالقة، في قطاعي الثقافة والإعلام ؛ لم يكن بمقدوره الحسم فيها وتدبيرها بحكمة وعقلانية في الوقت المناسب .

ليس القصد هنا بصدد تقييم أداء المسؤول الحكومي وهو على رأس وزارتين ، وإنما الإشارة إلى أن تردده أو تريثه في تمكين المكتبة الوطنية من مدير جدير بالمسؤولية ، أثار تساؤلات وانتقادات مشروعة، انتقلت أصداؤها إلى وسائل الإعلام المغربية . وهو واقع غير مسبوق، تسلط فيه الأنظار على &وضعية المكتبة الوطنية. &

صحيح أن الوزير الجديد فتح باب التباري على المنصب . وبينما كان ينتظر النتيجة ، عين مدير الاتصال والعلاقات العامة ،عبد الإله التهاني ، مديرا بالنيابة للمكتبة إلى حين استقرار رأي اللجنة الفاحصة للملفات على اسم يتصف بالنزاهة الفكرية والكفاءة الإدارية، فضلا عن المعرفة بالحقل الثقافي وبالفاعلين فيه من مختلف المهن والأجيال والتوجهات .

لم تقتنع اللجنة التي رأسها وزير أسبق للثقافة ، بأهلية المتبارين واكتفت بترتيب أسمائهم ، تاركة حرية الاختيار لسلطة الوزير الذي ربما ارتاح للنتيجة السلبية للجولة الأولى ، ما منحه الفرصة والوقت لفتح الباب ثانية ؛ غير أن عمل اللجنة الثانية انتهى إلى نفس ما وقفت عنده &نظيرتها الأولى : لم تجمع &على مرشح بالمواصفات المطلوبة ؛ قناعة منها أن المؤهلات الأكاديمية ( درجة الدكتوراه) لا تكفي وحدها ؛ فداخل المكتبة توجد ذخائر وكنوز ذات قيمة مادية وتاريخية لا تقدر بثمن ، وبالتالي فإن صفة الأمانة &تسبق أي شرط آخر في أي مدير .

والمؤكد أن الوزير محمد الأعرج ، اهتدى ، خلال المسافة الزمنية الفاصلة بين المباراتين الأولى والثانية ، إلى من يخلصه من صداع المكتبة الوطنية ، فقد نجح المدير بالنيابة، في حل الإشكالات والملفات الإدارية والإنسانية العالقة والمتراكمة وأعاد الضبط إلى المؤسسة ،مثلما وضع يده على ثغرات في التدبير، رافعا شعار التخليق ، ومشددا على صيانة الصرح الثقافي من إهمال كان يمكن أن يتسبب في مشاكل كبيرة . والواقع أن المدير بالنيابة جعل من &المكتبة الوطنية، بفضل علاقاته بالوسط الثقافي والنسيج الإعلامي ، إلى مركز استقطاب وجذب ، فكثرت بها الأنشطة والتظاهرات الثقافية والفنية ، وصار الزائر المتردد عليها يحس &بأن للمكتبة مديرا يحميها ويسهر عليها بتفانٍ وإخلاص وصرامة ، وتضحية بوقته وراحته الإدارية المستحقة .

وهذا ما سيجر على المدير بالنيابة نقمة الشغوفين &للمنصب، بإغراءاته المادية والمعنوية ؛ على اعتبار أن نجاحه كمدير موقت ،ربما يرون فيه حرمانا من نعمة المنصب أو يؤجلها إلى حين على الأقل. &

لم يشارك المدير بالنيابة، في السباقات &الثلاثة على مديرية المكتبة ، بمبرر إداري معقول ، كونه مديرا مركزيا بوزارة الاتصال ، فضلا عن انه نجح في تدبير المرحلة الانتقالية للمكتبة ؛ خاصة وأن المرسوم المنظم للتعيين في المناصب السامية ، يتيح للوزير،وهو رجل قانون، تثبيت المدير بالنيابة مباشرة &في المنصب ، بعدما &تبين له أن التباري الحر لم يسفر عن النتيجة المبتغاة.

أمام هذه التطورات ، وجد الوزير نفسه أمام إحراج أو إكراه ؛ فسارع مجددا &قبل أسبوع ، إلى فتح باب الترشيح للمرة الثالثة ، بعد أن تكررت فترة تمديد النيابة ست مرات( مرة كل ثلاثة &أشهر) وهذا إجراء وضع برأي كثيرين المدير بالوكالة في حرج &لطول مدة الانتداب ودون تأكده من نوايا الوزير بخصوص مال المنصب .

في هذا السياق، يطرح تساؤل آخر: كيف سيتعامل الوزير مع أية نتيجة محتملة تعرضها عليه اللجنة ؟ &

من المؤكد أنه يوجد تخوف من أن يتقدم نفس الراغبين الذين رفضتهم اللجنتان السابقتان.حيث ستترتب عن ذلك سابقة إدارية وأخلاقية : فمن جهة لا يمكن رفض المرشحين ثلاث مرات ،كما لا يجوز أخلاقيا إعلان فوز من أقرت اللجنة قبل أشهر معدودة، بعدم صلاحيتهم للمنصب .

الغيورون على المكتبة الوطنية ، المؤمنون بحرمتها ورمزيتها ،يتساءلون : لماذا أهملت السلطة الحكومية تصنيف المكتبة ضمن المناصب الإستراتيجية ، على غرار مؤسسات أخرى يختص الملك بالتعيين فيها مباشرة دون فتح باب الترشيح؟

لو اعتمدت السلطة ذلك التصنيف،وهو منطقي ومعقول، لخضع &التعيين في منصب مدير المكتبة الوطنية ، إلى نفس آلية &التسمية في المناصب السامية ،بناء على اقتراحات مباشرة من الوزير الوصي على قطاع الثقافة ؛ يجري البت فيه خلال مجلس الوزراء برئاسة الملك & .كان إجراء &شبيه هذا بالأسلوب متبعا قبل إقرار الدستور الجديد ، حيث يعين &الملك أسماء ذات كفاءة فكرية ومصداقية لإدارة المكتبة لا يعترض عليها أحد.

وليس في الإجراء المقترح ، أي نكوص عن مكتسب &إداري، أو إخلال ببند دستوري ، وإنما ينسجم مع روح النجاعة الإدارية &التي يحث عليها ملك البلاد . &

وعموما ، ليست المكتبة الوطنية بما فيها من ذخائر ومقتنيات وهدايا ومخطوطات، بأقل من وكالة الأنباء مثلا ( دون التنقيص منها ) لذا وجب تصنيفها في &مرتبة مماثلة للبنك المركزي المغربي ، بالنظر لما &تحتويه من الودائع النفيسة. ومن المفارقات الإيجابية &أن يعبر العاملون في المكتبة الوطنية ، عن هذا المطلب &وهم العارفون بما في الدار .

تحتاج المكتبة الوطنية ، وهي المنارة الثقافية الأخرى المشعة &في ظل العهد الجديد ، إلى تشريع مغاير &يضبط تسييرها، ويسد الثغرات انطلاقا من النقائص التي أبان عنها القانون الحالي.

الأجدر أن يصبح للمؤسسة مجلس إدارة ، يكون على &رأسه شخصية &فكرية وازنة مقبولة في المحافل الفكرية ، ذات حضور في الخارج والداخل ، لا يخضع انتقاؤها للمعايير الإدارية في الوظيفة العمومية وإنما لمعيار &النزاهة &الفكرية &والكفاءة &في التدبير والوزن المعنوي. لماذا لا يكون على رأس المجلس الإداري &للمكتبة، وزير أو سفير سابق، على سبيل المثال ، تنحصر مهمته والمجلس في &تحديد أهداف المكتبة ورسم إستراتيجيتها العامة ؛ بينما يضطلع مدير إداري، بجانب التدبير اليومي لشؤون المؤسسة في إطار من التناغم والهدوء بين المدير والمجلس الإداري. &