"لقد أخفيت الكتاب تحت غطائي. وطالعته خلسة وانا متأثر شديد التأثر. فاطلعت على ما ورد فيه من ارقام، وما تضمنهُ من معلومات عن الضحايا والفقر. وشعرت بما جرّه لنا الاستعمار من ذل وهوان. وكنت ابكي" هكذا وصف الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة شعوره بعدما قرأ كتاب "تونس الشهيدة" الذي الفه في 1920 الشيخ عبد العزيز الثعالبي مُؤسس الحزب الحر الدستوري التونسي. كان الكتابة بمثابة صيحة فزع لما آلت اليه أوضاع تونس والتونسيين تحت الاستعمار الفرنسي من فقر وبُؤس وتهميش.

لم تنجح النُخبة السياسة من دولة الاستقلال الى يومنا هذا في مكافحة الفقر وإرساء منوال تنموي يقلص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين الطبقات والجهات لأن الصراع السياسي البحث على السلطة والكرسي طغى على القضايا الاقتصادية والاجتماعية الحارقة.

تواصل هذا التمشي العبثي حتى بعد الثورة حين كانت كل الإنتظارات تتعلق بمكافحة الفقر والتفاوت الجهوي بسبب تغلغل الفساد وانتشاره في مفاصل الدولة. كانت السنوات الأولى من الثورة عصيبة على الشعب التونسي نتيجة انهيار منظومة سياسية بالكامل وارساء أخرى لم تكن حكيمة بدواليب تسيير المؤسسات وكان من نتائج ذلك تراجع نسب النمو وانتشار الفوضى. حينها قال الخبراء " هذه نتيجة حتمية لما يُسمى بمراحل الانتقال الديموقراطي"، لكن الأمر طال وتحولت حالة الفوضى والضبابية الى حالة من الفقر الهيكلي المستمر في مقابل غياب الاستقرار السياسي والتوافق على برنامج اقتصادي واجتماعي يمكن ان ينقذ ما يمكن إنقاذه.

يمكن الجزم الآن اننا في تونس نفتقد الى طبقة سياسية متشبعة بقيم الديموقراطية اللبرالية التي تؤمن بحق الاختلاف والقبول بالتشاركية كمبدئ أساسي لإدارة الشأن العام. ينطبق هذا تقريبا على كل الطيف السياسي التونسي ولو بدرجات. وهذا تتحمل مسؤوليته بالأساس دولة الاستقلال بسبب خياراتها التسلطية في الحكم أدى بمرور الزمن الى تصحر الحياة السياسية وغياب جيل جديد من السياسيين يؤمنون بقيم الديموقراطية والتعددية.

يعكس تقرير لجنة التنمية الجهوية التي كشف عنه مجلس نواب الشعب مؤخرا، حجم الخراب والدمار الذي حل بتونس نتيجة طبقة سياسية مراهقة همها الوحيد التشبّث بكرسي السلطة والتلذُذِ بمزاياه. كان يمكن ان يكون هذا التقرير محل حوار وطني واسع يجمع كل الفرقاء السياسيين الى جانب منظمات المجتمع المدني والمنظمة الشغيلة للاتفاق حول برنامج وطني للإنقاذ لكن التقرير "توفي مع الولادة" أمام الزحف الجارف للمناورات السياسوية الضيقة. وهذه مأساة تونس الكبرى.

تأتي مدن الجنوب التونسي والوسط والشمال الغربي بحسب تقرير لجنة التنمية في أدنى درجات سلم جاذبية الاستثمار رغم ان الدستور التونسي اقر مبدأ التمييز الإيجابي للجهات الداخلية التي تشكو الفقر. نتيجة لذلك فإن مدن "القصرين" والقيروان" وسليانة" والكاف" تأتي في طليعة المحافظات في نسب الفقر بمعدل 30 بالمائة تقريبا وأيضا في نسب الفقر المدقع بمعدل 10 بالمائة اي تقريبا نصف سكان هذه المناطق فقيرة.
هذه الأرقام مهمة لأنها تعكس الأسباب الحقيقية للتحركات الاحتجاجية المستمرة لشباب هذه المناطق وتُفنّد في الوقت ذاته روايات السلطة التي ما تَنفكُ تتهم "أطرافا سياسية" بالوقوف وراء تأجيج هذه التحركات.

لو نُدقق اكثر في هذه الأرقام سوف نجد مثلا بأن نسبة الفقر ارتفعت في الوسط الغربي من 8,4 سنة 2010 الى قرابة ال17,5، سنة 2015، أي بعشر نقاط كاملة في خمس سنوات فقط، وهو رقم مُفزع ينذر بانفجار اجتماعي وشيك خاصة اذا ما اضفنا اليه تداعيات ازمة كورونا على الاقتصاد بزيادة اكثر من 150 الف عاطل عن العمل و 400 الف فقير جديد في تونس.

سوف يكون على الحكومة المقبلة مكافحة الفقر الذي أصبح يهدد السلم الاجتماعي برمته لأن نذائر الدولة الفاشلة بدأت في الظهور كالعجز عن استخدام العنف المشروع في بعض المناطق وحماية المنشآت الحيوية لاقتصاد البلاد الى جانب فقدانها "لشرعية اتخاذ القرارات العامة وتنفيذها عجزها عن توفير الحد المعقول من الخدمات العامة". لا يمكن ان يَتم ذلك دون مقاربة تنموية جديد تُطلق رصاصة الرحمة على الاقتصاد الريعي و تقطع مع البيروقراطية و المركزية المشطة و تعتمد أساسا و ضرورة على الحوكمة الرشيدة ومقاومة الفساد. خلافا لذلك سنكون كمن "يحرث في البحر".