تاتيانا بورودكينا، مذيعة التلفزيون الرسمي في بيلاروسيا تهتم بالطهي لا بالسياسة.
كل صباح في برنامج Breakfast for 3 (إفطار لثلاثة أشخاص) تقدم تاتيانا وصفات سهلة بمساعدة ابنتيها الصغيرتين، لكنها خرجت الأسبوع الماضي لتعلن عبر فيسبوك استقالتها قائلة إنه "لم يعد بوسعها أن تبتسم على شاشة التلفزيون" بعد الانتخابات التي رأت أنها مزورة بصورة فجة.
اضطرت بعدها للفرار من البلاد مع طفلتيها إثر تلقيها تهديدات.
تاتيانا واحدة من بين عدد متزايد من العاملين بوسائل الإعلام الحكومية ممن أكدوا علنا دعمهم للتغيير ورجحوا وجود خلل في نظام المعلومات - أو آلة الدعاية - الذي ساعد الرئيس ألكسندر لوكاشينكو على الاستمرار في السلطة لـ 26 عاما.
ترك العاملون في مؤسسة بيل تيليراديو المملوكة للدولة وظائفهم يوم الاثنين، وأعلنوا أن الانتخابات التي جرت في 9 أغسطس/ آب الحالي "غير شرعية" وطالبوا بوضع حد للرقابة على الإعلام. وتقوم القنوات الرئيسية ومن بينها بيلاروسيا 1 حالياً ببث مواد مسجلة.
" لم يعد بإمكاني أن أقول لهم إن العيش الرغيد سهل! "هكذا قالت لي تاتيانا في إشارة إلى عبارتها الشهيرة.
تقول مذيعة تليفزيون STV ذات الشعبية العارمة إن أحد معارفها جاء لمنزلها وهددها، بعدما كتبت منشوراً مماثلاً على وسائل التواصل الاجتماعي.
" أخذ يتحدث لي عن روعة البلد الذي نعيش فيه، متسائلاً عما أظن أنني أفعل. قال لي إنه يحذرني بلطف، لكن آخرين قد يأتون إلي غدا"، هكذا قالت تاتيانا من أوكرانيا حيث تقيم الآن حرصاً على سلامتها.
تلقت كذلك عى هاتفها المحمول رسائل تهديد مجهولة المصدر. وتضيف " قالوا سيأخذون أطفالي إن واصلت الحديث"
ومن بين رموز الإعلام الآخرين الذين أعلنوا استقالاتهم - ومن ضمنهم صحفيون معروفون- لم يجرؤ على الحديث عن دوافعه صراحةً سوى عدد محدود. اكتفى معظمهم بالإعلان على وسائل التواصل الاجتماعي عن "آخر يوم عمل" لهم، واجتذاب الاف الـ "لايكات".
بالنسبة لتاتيانا كانت وحشية قوات الأمن ضد المتظاهرين هي النقطة الفاصلة.
"يحاولون ترهيب الناس، لكن ما يحدث هو العكس. لن ينس أحد ما حدث" هكذا تحدثت تاتيانا عن الاعتقالات الجماعية والتعامل العنيف مع المتظاهرين السلميين.
تشعر تاتيانا بالتأثر وتقر بأنها لا تستطيع النوم من الذعر بسبب الرسائل التي يبعثها أصدقاؤها الذين تعرضوا للاعتقال والضرب.
وتؤكد " لا مجال للتراجع. لن يتسامح الناس مع هذا."
أمضت المراسلة التلفزيونية، يانا شيوكو، أيضاً كثيرا من الليالي دون نوم حين اختفى زوجها إيفان مورايوف، وهو مراسل حر اعتقل أثناء تصويره لمظاهرة بهاتفه المحمول.
" كان انتهاكاً كاملاً لحقوق الإنسان" هكذا تحدثت الصحفية في تلفزيون STV عما حدث بعد ذلك. فقد تعرض زوجها للضرب على يد الشرطة على مدار ثلاثة أيام، بينما كانت تنتظر خارج مركز الاعتقال مع أقاربها، فيما كانت سيارات الإسعاف تدخل وتخرج من المكان.
وصف إيفان ما تعرض لها قائلاً "لصقوا وجوهنا في الحائط، وأجبرونا على خلع قمصاننا وأخذوا يضربون ظهورنا بالهراوات. ثم دفعوا بي على الأرض وقاموا بضربي وهم يسألون: من تحب؟ لم أفهم ما يقصدون حتى صاح شرطي في قوات مكافحة الشغب قائلاً: أحب بيلاروسيا".
يتملكها الشعور بالرعب، قررت يانا أن تتكلم علنا. "أرادوا أن يلقنوا الناس درساً، ألا يتظاهروا. لكنهم فوجئوا بنتيجة أخرى"
تقول يانا: "لم يسبق في تاريخ بيلاروسيا أن كنا متحدين كما نحن الآن. أشعر وكأن الأمر يستحيل أن يتوقف. يتملكنا شعور بأن الأمة البيلاروسية ولدت من جديد."
لم تغطي القنوات التلفزيونية كتلك التي تعمل بها يانا الاحتجاجات الجماهيرية ولم تشر إلى عنف الشرطة.
يوم الجمعة، تظاهر العشرات خارج عدد من المقرات مطالبين الصحفيين بـ "قول الحقيقة".
تقول يانا "بالتأكيد أتفق مع المتظاهرين، خاصة أنني عانيت شخصياً حين اعتقل زوجي. لم تكن هناك معلومات كافية. يمكنهم أن يقوموا بدور أكبر."
خلال عطلة نهاية الأسبوع، حين تظاهر عشرات الآلاف في مينسك للمطالبة بانتخابات حرة نزيهة، أشارت نشرة الأخبار الرئيسية في تلفزيون STV لأكبر مظاهرة في بيلاروسيا بشكل عرضي بوصفها " مسيرة بديلة". وتم بث صور التقطت في وقت مبكر قبل أن تمتلئ الشوارع بالمحتجين.
وعلى النقيض، تم تخصيص 22 دقيقة لمسيرة لأنصار لوكاشينكو مع مقتطفات مطولة من كلمته ولقطات مقربة للحشود بحيث تبدو أكبر.
ومع ذلك، تصر يانا - التي كانت صحفية معتمدة لدى القصر الرئاسي لسنوات- على رفضها لتعبير "الدعاية" وتقول إنها كانت دائماً ما تطرح على ضيوفها أسئلة "محرجة".
تأمل - وهي في إجازة حالياً- أن تعود لوظيفتها، رغم ما تقوله عن أن المقربين وغير المقربين على السواء يبعثون لها برسائل تحثها على الاستقالة.
تقول يانا " أحلم فقط بأن يكون لدينا في المستقبل صحافة عادية، حقيقية. لأنه مؤلم أن نرى الناس تكره كل من يعمل في التلفزيون الحكومي."
وتصف الأحداث الأخيرة في بلادها بأنها "ملهمة للغاية".
" قبل أشهر قليلة، كان الجميع تقريباً واثقين من فوز لوكاشينكو في هذه الانتخابات، لأنه لم تكن هناك منافسة. ولكن الآن وقعت أخطاء قاتلة ومن الصعب التوقف."
وفي كييف بأوكرانيا، بعيداً عن الشاشة، تشعر تاتينا بورودكينا بأن حياتها انقلبت رأساً على عقب.
صوتت لصالح مرشحة المعارضة، سفيتلانا تيخانوفيسكايا، لأنها لا ترى مستقبلاً لأبنائها في ظل حكم لوكاشينكو وتعتبر انتصاره بنسبة 80% "مستحيلا".
مازالت تؤمن بإمكانية إجراء انتخابات جديدة نزيهة. ولكن إلى أن يتحقق ذلك، لا يمكنها العودة إلى مينسك.
تقول تاتيانا وقد انفجرت بالبكاء" ما يحدث مؤلم جدا. أريد العودة لوطني، إلى بيلاروسيا الحبيبة. لو أتوقع قط أن يحدث لي هذا. لم يتوقع أحد أن يعاملونا بهذه الطريقة."
تعرف على البلد الأوروبي الوحيد الذي لا يكترث بوباء كورونا
بيلاروسيا تتهم "مرتزقة روس" بالتخطيط لمؤامرة قبيل الانتخابات
التعليقات