تونس نوفمبر-تشرين الثاني1977، قبو دار الثقافة ابن رشيق.. واحد من الفضاءات النادرة التي تبيح النقاش الحرّ في المواضيع المحرمة..

يوم السبت من كل أسبوع، يتكدّس فيه من تبقى من اليساريين ومن أصحاب الرأي الحر بعد أن زُجّ في السجون بعشرات منهم، وعليهم سُلِّطَت الأحكام الجائرة.. جلّهم شبان في زهرة العمر لا جريمة لهم سوى الحلم بالحرية..

مساء غائم حزين مثل كلّ مساءات العاصمة في تلك السنوات التي كانت فيها البلاد تعيش على وقع المحاكمات والاعتقالات.. والتي لا تشرق فيها سوى ابتسامات حسناوات كلية 9 أفريل المغرمات بأغاني الشيخ إمام، وأفلام جان لوك غودار، وقصائد بول ايلوار ومحمود درويش، وبرواية "الأم" لمكسيم غوركي..

وسط سحاب كثيف من دخان السجائر، يبدأ النقاش حول مواضيع وضع عليها النظام خطّا أحمر..
مع ذلك يجرؤ الحاضرون على الخوض فيها وهم يعلمون جيدا أن آذانا خفية تلتقط كلّ همسة، كل نأمة، كل حركة مُسترابة..
فجأة يقتحم القبو غريب في حوالي الستين من عمره..
تختف الأصوات في انتظار التثبت من هوية الرجل الغريب ذي الملامح المشرقية..
بعد حين من الزمن، يكشف الغريب عن هويته ..
هو الشاعر خليل حاوي.. وهو في طريقه إلى نيويورك يتوقف بليلة واحدة في تونس..
"عمّقْ الحفرة يا حفار/عمّقها لقاع بلا قرار"..

يتواصل النقاش.. بعد حوالي عشرين دقيقة، يرتفع صوت خليل حاوي:" أنتم تناقشون مواضيع مهمة بلغة ركيكة.. لا بد من اتقان اللغة قبل كل شيء.. ثم لماذا تُقْحمون كلمات فرنسية في كل جملة تنطقون بها؟ هل تكون اللغة العربية عاجزة عن التعبير عن أفكاركم؟ وإذا ما أنتم تبتغون الحرية حقًا فإنكم لن تكتسبوها إلاّ بلغتكم الأم وليست بلغة من استعمر بلادكم سبعين سنة على ما أظن..
لم يجرؤ أحد على الرد عليه..

ثم يسأله أحدهم عن معنى "البعث" في شعره، فيجيب قائلا:" البعث محاولة تلقائية مستمرة في ابداع الرموز المستمدة من واقع حضارتنا وحكاياتنا الشعبية ومظاهر الطبيعة. ومنها تموز والعنقاء والبعل والبصّارة والسندباد والثلج والصحراء والرمل والبحر. وأعتقد أني تحاميت آفة الشعر الشعبي، أو الفولكلوري الذي ينزع منزع السرد وعرْض الأحداث بأسلوب وصفيّ مُتراخ مسترسل. فحولت الحكاية أو الأسطورة إلى رمز جعلته أساسا خفيّا للقصيدة، تحسّه في نظامها ووحدتها، لا يبرز على سبيل التحليل والتفسير"..

وعلى سؤال حول علاقة شعره بالفلسفة، أجاب خليل حاوي قائلا: "اطلاعي هو اطلاعٌ وثيق جدًا في الحضارة العالمية من قبل أفلاطون إلى آخر التطورات في الفكر الحديث، وهذا أمر مُخالف لما تواضع عليه الناس في مجال الثقافة الأدبية. كان المفهوم السائد أن الفكر الفلسفي يُفسد الأدب، وبخاصة الشعر. وربما كان لثقافتي الفلسفية بعض الأثر في تمايز شعري عن شعر الآخرين من رواد الشعر الحديث، وأعتقد أن الفكر الفلسفي عمّق الرؤيا الشعرية دون أن يوشحها أي أثر من أثر الفكر الذي يقرر تقريرا، أو يَردُ على سبيل الحكمة المأثورة"..
ثم غادر خليل حاوي قبو دار "ابن رشيق" تاركا الجميع واجمين مذهولين..

بعد فترة قرأت له تصريحًا يقول فيه: "قد أستيقظ في أيّ صباح لأقرأ في الصحف أن لبنان قد تبخّر، قد حُذِفَ من الخريطة، وأن أهلي الآن لاجئون، أو انهم مُنطرحون على التراب في ّالشوير"، أو في طريقهم إلى التشرد الأبدي(.. ) مأساة فظيعة انتظارها أفظع من وقوعها"..

في السادس من شهر يونيو-حزيران1982، لا أتذكر ماذا كنت أفعل حين نزل عليّ كالصاعقة خبر انتحار خليل حاوي برصاصة في الرأس بينما كانت الدبابات الإسرائيلية تتقدم لتضرب حصارا حول بيروت سوف يستمر طوال أشهر الصيف اللاهبة: "طال صمتي/من تُرى يسمع صوتي صارخًا في صمته/يسمع صوتي/فاتني الإفصاح أدركتُ مُحالهْ / بين تهجير وجلْد واغتيال وعمالهْ/ فالأمتْ غير شهيد/ مُفصحًا عن غصة الفصاح في قطع الوريد".