شهد العامان الماضيان أكبر عدد من الصراعات على الإطلاق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فما السر في ذلك؟

إيلاف من دبي: في الأشهر الـ 24 الماضية، بدأ عدد مذهل من الصراعات المسلحة، أو تجدد، أو تصاعد. كان بعضها مجمدًا بالكامل، ما يعني أن طرفيه لم يخوضا قتالًا مباشرًا منذ سنوات؛ وكان بعضها الآخر يغلي لفترة طويلة، ما يعني أن قتالًا بقي على مستوى منخفض سيندلع بشكل متقطع. أصبحت جميعها نشطة الآن.

لا تشمل القائمة الحروب في غزة وأوكرانيا فحسب، بل الأعمال العدائية بين أرمينيا وأذربيجان في ناغورنو كاراباخ، والإجراءات العسكرية الصربية ضد كوسوفو، والقتال في شرق الكونغو، والاضطرابات الكاملة في السودان منذ أبريل، ووقف إطلاق النار الهش في تيغراي الذي أدى إلى تفاقم الوضع. ويبدو أن إثيوبيا على وشك الانهيار في أي وقت. لم تكن سوريا واليمن هادئتين تمامًا خلال هذه الفترة، ولا تزال العصابات والكارتلات تهدد الحكومات بشكل مستمر، بما في ذلك الحكومات في هايتي والمكسيك. ويأتي هذا كله على رأس احتمال اندلاع حرب كبرى في شرق آسيا، مثل غزو الصين جزيرة تايوان.

بحسب برنامج "أوبسالا" لبيانات الصراع، الذي يتتبع الحروب في العالم منذ عام 1945، يعد عاما 2022 و2023 من الأكثر اضطرابًا في العالم منذ نهاية الحرب الباردة. بالعودة إلى يناير 2023، قبل اندلاع العديد من الصراعات المذكورة أعلاه، دقت نائبة الأمين العام للأمم المتحدة أمينة ج. محمد ناقوس الخطر، مشيرة إلى أن السلام "يتعرض لتهديد خطير" في جميع أنحاء العالم.

تثير سلسلة الصراع الظاهرة سؤالًا واضحًا: لماذا؟ يمكن ثلاث نظريات أن تفسر هذه الظاهرة بشكل معقول، وأيًا كانت على حق، فإن نتائجها ترجح أن تستعر هذه الصراعات في المستقبل.

التفسير الأول يقول إن الشلال موجود في عين الناظر. سهل أن "ينخدع الناس بالعشوائية "، كما حذر الكاتب والإحصائي نسيم نيكولاس طالب. قد تكون موجة المواجهات المسلحة مجرد ظاهرة لا تخفي أي معنى أعمق: بعض الصراعات المجمدة، على سبيل المثال، كان مقررًا أن تشتعل ولم تهدأ إلا في الآونة الأخيرة. بعبارة أخرى، ينبغي النظر إلى حجم الحروب اليوم من منطلق أنها ليست أكثر من مجرد سلسلة من الأحداث المؤسفة التي يمكن أن تتكرر أو تتفاقم في أي وقت.

نظرية غير مطمئنة

قد تكون هذه النظرية معقولة، إلا أنها ليست مطمئنة. المصادفات تحدث بكل تأكيد، إلا أن الاضطراب الحالي يحدث في وقت يشهد النظام الدولي تغيرات كبيرة. يبدو أن عصر السلام الأميركي انتهى، ولم تعد الولايات المتحدة مستعدة للقيام بدور شرطي العالم. لا يعني ذلك أن السلام الأميركي كان سلميً. فقد كانت التسعينيات مثيرة للجدل: اندلعت الحروب الأهلية في قارات متعددة، ونشبت الحروب الكبرى في أوروبا وأفريقيا. لكن الولايات المتحدة حاولت احتواء العديد من الصراعات المحتملة، فقادت واشنطن تحالفًا لطرد عراق صدام حسين من الكويت، وسهلت عملية أوسلو لحل الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، وعززت تحسين العلاقات بين الكوريتين، وشجعت عمليات حفظ السلام في جميع أنحاء العالم.

حتى في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، حظي غزو أفغانستان بدعم الكثيرين في المجتمع الدولي باعتباره ضروريًا لإزالة نظام منبوذ وتمكين دولة تعاني من الاضطرابات منذ فترة طويلة من إعادة البناء. لم تنته الحرب، لكن الإنسانية بدت أقرب من أي وقت مضى إلى إيجاد صيغة للسلام الدائم.

على مدى العقود اللاحقة، بدا أن الولايات المتحدة أهدرت النوايا الحسنة. بحلول عام 2010، كانت غارقة في حربين خاسرتين وتتعافى من أزمة مالية. تغير العالم أيضًا، مع تراجع القوة من قطب واشنطن الوحيد إلى قوى ناشئة متعددة. قال وزير الخارجية آنذاك جون كيري في مقابلة أجريت معه في عام 2013 في مجلة "ذي أتلانتيك ": "نعيش في عصر أشبه بالقرنين الثامن عشر والتاسع عشر"، حيث العالم متعدد الأقطاب وتتدافع القوى العظمى للحصول على الأفضلية على الساحة العالمية، وهذا يحمل في طياته احتمالات نشوب المزيد من الصراعات.

برزت الصين قوة عظمى تسعى إلى التأثير في النظام الدولي، بالاستفادة من الجاذبية الاقتصادية لمبادرة الحزام والطريق أو بمراجعة الوضع العسكري داخل منطقتها. روسيا لا تتمتع بالقوة الاقتصادية التي تتمتع بها الصين، لكنها تسعى إلى الهيمنة على منطقتها، وترسيخ نفسها لاعبًا عالميًا مؤثرًا. لا يهم إذا كانت روسيا أو الصين تساويان الولايات المتحدة، فكلتاهما قويتان بما يكفي لتحدي النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، مع الاستفادة من المشاعر الرجعية التي يتقاسمانها مع بلدان الجنوب العالمي.

وصفة للفوضى

ربما تكون المنافسة بين القوى العظمى وصفة للفوضى. قالت هانا نوت ومايكل كيماج في مجلة "فورين أفيرز" إن القوى العظمى المنشغلة بالتنافس والتواطؤ بعضها مع بعض تكون مشتتة الانتباه إلى الحد الذي يجعلها غير قادرة على الرد عندما "تتصادم القوى المتوسطة الحجم، والقوى الصغيرة، بل وحتى الجهات الفاعلة غير الحكومية". النتيجة هي أنه حتى لو تجنبت القوى العظمى التحارب، يمكن أفعالها أن تثير حروبًا في أماكن أخرى.

ليست التعددية القطبية التغيير المنهجي الوحيد الذي يسبق الموجة الحالية من الصراعات. لكن يبدو أن العوامل الأخرى، بما في ذلك تغير المناخ وتأثيرات جائحة فيروس كورونا، تشير إلى التعددية القطبية، إن لم يكن كسبب، بل كعامل في عدم فعالية الاستجابة العالمية، وبالتالي اندلاع المزيد من الصراعات. لنفترض أن لا سبب نظاميًا لانتشار الحروب، فالعالم يدين بحالته الحالية من الاضطرابات مباشرة لروسيا، وبشكل أكثر تحديدًا، للغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022 وقرارها مواصلة القتال منذ ذلك الحين. فالحرب في أوكرانيا تستحوذ على اهتمام الجهات الدولية الفاعلة التي لولا ذلك لكانت في وضع يمكنها من منع أي اندلاع الأزمات.

لنتأمل الصراع بين أرمينيا وأذربيجان. فقد توقعت أذربيجان ألا تكون روسيا قادرة على الرد إذا حركت باكو قواتها إلى منطقة ناغورنو كاراباخ. وثبت أن هذه المقامرة صحيحة. وعلى الرغم من أن روسيا لعبت دورًا في المساعدة في إنهاء النزاعات السابقة بين البلدين، فأن موسكو لم ترد على تصرفات أذربيجان الأخيرة ضد أرمينيا. وجاء أقوى تصريح روسي من الرئيس فلاديمير بوتين نفسه، الذي اكتفى بالسخرية قائلًا: "إذا اعترفت أرمينيا نفسها بكاراباخ كجزء من أذربيجان، ما الذي علينا فعله؟".

الفرصة المواتية

لننظر أيضًا إلى الحرب في غزة. مع تركيز القوى الكبرى مواردها الدبلوماسية والعسكرية على أوكرانيا، رأت حماس أن البيئة الدولية مواتية لضرب إسرائيل. وكان نائب رئيس حماس، صالح العاروري، صريحًا بشأن هذه النقطة في أبريل، حين قال لقناة الجزيرة: "إدراكًا لأهمية المعركة الحالية مع روسيا على النفوذ العالمي، تعطي الولايات المتحدة أولوية لمنع اندلاع صراعات أخرى، والحفاظ على الهدوء والاستقرار العالمي حتى نهاية معركة أوكرانيا. مسؤوليتنا استغلال هذه الفرصة وتصعيد مقاومتنا بطريقة حقيقية وخطيرة تهدد الهدوء والاستقرار الذي يريدونه".

المصادفة والتعددية القطبية وحرب روسيا في أوكرانيا عوامل مترابطة. يساهم تراجع هيمنة الولايات المتحدة في تنامي التعددية القطبية، ومؤكد أن المنافسة بين القوى العظمى غذت العدوان الروسي وردة فعل الغرب. النتيجة هي أن الآخرين يقعون في مرمى نيران القوى العظمى أو يسعون إلى إشعال النيران بأنفسهم

كانت الحروب سمة ثابتة للنظام الدولي، لكنها لم تكن منتشرة على نطاق واسع. بعبارة أخرى، كانت الحرب تحدث دائمًا في مكان ما، لكنها لم تكن تحدث في كل مكان. فهل المستقبل مرهون لانتشار الحروب، وليس استمرارها فحسب؟

أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن مقالة كتبها بول بوست ونشرتها مجلة "ذا أتلانتيك"