منذ بداية الحرب في غزة، بعد هجوم حماس على جنوبي إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بات الهاجس المسيطر هو اتساع دائرة الصراع والدخول في موجات أكثر دموية.
وفي غداة اليوم الذي شنت فيه حماس هجومها، وعلى سبيل التضامن مع الحركة الفلسطينية، أطلقت جماعة حزب الله اللبنانية صواريخ موجهة وقذائف باتجاه إسرائيل، مما دفع الأخيرة إلى الرد بالمدفعية وبالطائرات المسيرة.
وفي ظل ما تعانيه إسرائيل من شعور بالصدمة وعدم التحصّن، وفي ظل رئيس وزرائها الذي يناضل من أجل البقاء السياسي، هل يمكن أن تلجأ إسرائيل إلى اعتبار أن الخطر الذي يتهددها من الشمال في لبنان يحتاج إلى التحييد؟
ويتمثل الهاجس في احتمالية أن تجد حكومة بنيامين نتنياهو ما يُغريها على فتح جبهة ثانية للحرب ضد حزب الله – الجماعة التي تشارك حماس التصميم على تقويض أركان إسرائيل. وإذا ما حدث ذلك، وفتحت إسرائيل جبهة ثانية، فهل سيجذب ذلك إيران -الراعي الرئيسي لحزب الله في المنطقة والعدو الصريح للولايات المتحدة-؟
وخلال الأيام الأخيرة، شنّت إسرائيل مزيدا من الغارات على وادي البقاع، في الجنوب اللبناني، ليرتفع عدد الوفيات في لبنان منذ بدء الصراع إلى أكثر من 240 شخصا.
من جانبها، ردّت جماعة حزب الله بوابل من 100 صاروخ كاتيوشا على شمالي إسرائيل – في أقوى هجوم لحزب الله منذ بداية الحرب - حيث استهدف قواعد عسكرية إسرائيلية في مرتفعات الجولان. ولقي ما لا يقل عن 17 إسرائيليا مصرعهم في هجمات من لبنان وسوريا منذ أكتوبر/تشرين الأول.
ودفعت صواريخ حزب الله وزير الأمن القومي الإسرائيلي، اليميني المتطرف، إيتمار بن غفير إلى توجيه رسالة لوزير الدفاع يوآف غالانت قائلا: "الجيش مسؤوليتك أنت.. ماذا تنتظر بعد؟ علينا أن نبدأ الرد والهجوم.. الحرب، الآن!"
وفي الشهر الماضي، قال رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هاليفي: "نركّز الآن على الاستعداد لحرب في الشمال".
ولمدة طويلة، كانت المصادمات على الحدود تبدو محسوبة بعناية وكان ثمة حذر من تجاوُز خطوط حمراء غير معلنة خشية التصعيد والوصول إلى حرب شاملة.
ولم يدعُ حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، إلى مثل تلك الحرب. ولا تزال ذكريات حرب عام 2006 الكارثية ماثلة في أذهان اللبنانيين، والتي قُتل فيها أكثر من 1,000 لبناني.
وفي المقابل، تعلم إسرائيل جيدا أن قدرات حزب الله العسكرية هي أكبر بكثير من قدرات حركة حماس.
"الانزلاق إلى الهاوية"
أجرت صحيفة معاريف الإسرائيلية الشهر الماضي استطلاع رأي، وجاءت نسبة 71 في المئة من المشاركين فيه مؤيدة لشنّ عملية عسكرية واسعة النطاق لردع حزب الله.
وتعيش ساريت زهافي على مقربة من الحدود اللبنانية، وتدير مركز "ألما" للبحوث، والمتخصص في تقييم التهديدات بتلك المنطقة.
وتقول زهافي إن حزب الله يستهدف "جرّ إسرائيل إلى الحرب دون أن يكون هو البادئ الفعلي".
وتضيف بأن إسرائيل لا تتطلع إلى حرب شاملة، وأن "مصلحتها تتمثل في تفادي نشوب مثل تلك الحرب، لكن مع تحقيق تحسُّن في الوضع الأمني، وإلحاق الضرر بأكبر قدر ممكن من ألوية حزب الله. الأمر بالنسبة لإسرائيل هو بمثابة اختيار أقل السيناريوهات سوءا: إننا ندرك قدرات حزب الله، فضلا عن تكلفة الحرب".
وتعتقد زهافي أن استخدام حزب الله للصواريخ، التي تفوق في مداها تلك الصواريخ المضادة للدبابات التي استخدمها الحزب في السابق، يعدُّ دليلا على تحوّل في تكتيكات وقدرات الحزب عسكريا.
وتضيف أن "حزب الله يضع في الحسبان تكلفة الحرب، لكنهم لا ينظرون إلى المستقبل القريب، بل ينظرون إلى ما هو أبعد بسنوات".
وبحسب مديرة مركز "ألما" للبحوث فقد "كسب حزب الله بالفعل عبر إجبار إسرائيل على إجلاء عشرات الآلاف من السكان"، فقد نزح حوالي 60 ألف نسمة كانوا يعيشون في مجتمعات متاخمة للحدود منذ بدء القتال في أكتوبر/تشرين الأول، فيما يعدّ أضخم عملية نزوح في تاريخ إسرائيل.
وعلى الجانب المقابل، جرى إجلاء حوالي 100 ألف لبناني من المناطق القريبة مع الحدود إلى الداخل.
ومن أجل السماح بعودة هؤلاء النازحين إلى مساكنهم الحدودية، تحتاج إسرائيل إلى صدّ قوات حزب الله وإعادتها إلى ما وراء نهر الليطاني، والذي يمثل ما يشبه المنطقة العازلة تقريبا بين بيروت والحدود الإسرائيلية.
ونصّت اتفاقية إنهاء حرب 2006 على أن تكون المنطقة جنوبي نهر الليطاني خالية من الوجود العسكري باستنثاء قوات الجيش اللبناني والأمم المتحدة، وهو ما لم يلتزم به حزب الله.
كان ذلك جزءا من مناقشات مع عاموس هوكشتاين، المبعوث الأمريكي الخاص، الذي زار المنطقة عدة مرات في محاولة لتفادي وقوع صراع. لكن مسألة التوصل إلى اتفاق بشأن انسحاب حزب الله ونزع السلاح لا تزال بعيدة.
وحتى الآن، يحرص كل من نتنياهو ونصر الله على عدم الانزلاق إلى الهاوية. فالجيش الإسرائيلي منتشر بالفعل في غزة، من دون فتح جبهة جديدة، أو إثارة توتّر دولي جديد.
وعلى الجانب الآخر، يقف حزب الله في "وضع ردّ الفعل"، مفضّلا خوض حرب استنزاف.
ولكن التخوّف الحقيقي هنا هو من سوء التقدير والانصياع للضغوط: فنتنياهو يدهمه شعور بأنه ترك بلده يتعرض لأسوأ هجوم في تاريخه، وهناك تنديدات قاسية من أهالي المختطفين تنهال عليه مطالبينه بأن يوقع اتفاقا لإعادة ذويهم، فضلا عن إدانات الغرب بسبب ارتفاع أعداد الضحايا المدنيين في غزة.
الخوف هنا في احتمال أن يرى نتنياهو في توسيع دائرة القتال إلى لبنان طوق نجاة لحياته السياسية، وأن يرى إسرائيل لا يمكن أن تظل دون الإقدام على خطوة عسكرية مع استمرار وجود تهديد من حزب الله في الشمال.
يعتقد هلال خشان، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية في بيروت، أن الحرص النسبي الذي تبديه إسرائيل حتى الآن على الجبهة الشمالية لا يحكي عن القصة الحقيقية.
يقول خشان إن "نتنياهو يريد الحرب بوضوح"، مشيرا إلى هجمات إسرائيل على نحو أربعة آلاف موقع في أنحاء لبنان منذ أكتوبر/تشرين الأول.
ويضيف خشان بأن نتنياهو "انتهى سياسيا وسوف يخضع للمحاسبة بمجرد انتهاء الحرب.. لا أعتقد أنه سيأبه بما تقوله الولايات المتحدة أو أوروبا، لقد عقد عزمه ضد حزب الله".
الأمر الأكثر خطورة هنا يتمثل في عدم معرفة ما سيكون عليه ردّ إيران، التي تعتمد على جماعة حزب الله – حليفتها في لبنان، كمِتراس ضد إسرائيل.
ومنذ هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تستعرض إيران قوتها في أنحاء الشرق الأوسط. وتقوم جماعات مدعومة من إيران بتوجيه ضربات لقواعد عسكرية أمريكية في كل من العراق وسوريا. وتشن جماعة أنصار الله الحوثيين في اليمن هجمات لا حصر لها على سفن في أثناء عبورها البحر الأحمر.
ولحد الآن، تحرص إيران على عدم الانزلاق إلى حرب مباشرة، لكن ضربات إسرائيلية كبرى ضد حزب الله قد تدفع طهران إلى تغيير حساباتها.
وفي لبنان، لا توجد رغبة تُذكر في صراع شامل مع إسرائيل، لا سيما عند الجماعات الدينية التي لا تنتمي إلى المذهب الشيعي الذي تنتمي إليه جماعة حزب الله.
وفي ذلك يقول هلال خشان: "الآخرون غير الشيعة، في معظمهم يعارضون الحرب، ويرغبون في نزع سلاح حزب الله".
ويستدرك خشان قائلا: "كما أن الشيعة ليسوا سعداء بالقتال، إنهم بشكل عام لا يرغبون في الحرب".
وقال حسن نصر الله إنه لن يوافق على وقف لإطلاق النار مع إسرائيل قبل إبرام هدنة في غزة.
وأفادت تقارير بأنه قال لقائد عسكري إيراني الشهر الماضي إنه لا يرغب في أن تخوض إيران حربا مع إسرائيل أو الولايات المتحدة، وإنه في حالة نشوب حرب مع إسرائيل، فإن حزب الله سيقاتل لوحده.
وفي غضون ذلك، لا تزال المخاوف تطارد أولئك الذين يعيشون على جانبي الحدود بين لبنان وإسرائيل.
وفي ذلك تقول ساريت زهافي: "في كل ليلة، أصطحب معي إلى الفراش صور مذبحة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وفي كل صباح أستيقظ وأقول: حسنا، الإرهابيون لم يهاجموا مرة أخرى الليلة الماضية.. إنه تهديد وجودي بأعمق صورة ممكنة".
التعليقات