في عالم تحكمه "مملكة الصمت"، خرجت سجون الأسد عن صمتها فجأة، لتطلق سراح مئات المعتقلين الذين ظلت أخبارهم مجهولة لعقود. بين فرحة اللقاء وصدمة ما بعد التحرير، تعيش عائلات لبنانية وسورية لحظات اختلطت فيها الدموع بالدهشة، حيث حملت الصور الأولى للمحررين قصصًا عن معاناة لا يمكن اختصارها بسنوات أو كلمات. إيلاف من بيروت: منذ عقود طويلة، ظلت سجون النظام السوري رمزًا للقمع والانتهاكات. اليوم، ومع تحرير مئات المعتقلين، بما في ذلك نحو مئة لبناني، تعيش عائلاتهم لحظة من الفرح المشوب بالقلق في ظل ظروف سياسية وإنسانية معقدة.
معمّر وعلي: 38 عامًا من الغياب
منذ عام 1986، كانت عائلة معمّر حسن العلي تعيش في ظل فقدان ابنها علي حسن العلي. علي، الشاب الذي كان يعمل ميكانيكي سيارات في عكار شمال لبنان، اعتقلته القوات السورية عند نقطة تفتيش، متهمة إياه بالانتماء إلى "حركة التوحيد الإسلامي".
لم يكن لدى العائلة معلومات واضحة عن مصيره. يقول معمّر لـ"المدن": "زرنا كل فرع أمني في سوريا. كنا نسمع إجابات متضاربة؛ مرة يقولون إنه محتجز، ومرة ينكرون وجوده. كان الأمل هو الشيء الوحيد الذي يجعلنا نستمر".
في يوم الخميس الماضي، وصلت صورة عبر تطبيق واتساب لرجل بدا وكأنه في أواخر الخمسينيات من عمره، مع تعليق يقول إنه من المحررين من سجن حماة. يقول معمّر: "بمجرد أن رأيت الصورة، عرفت أنه أخي. مشاعري كانت مزيجًا من الفرح والذهول. بعد 38 عامًا، ها هو أخي حي، لكن خرج رجلًا مسنًا بعدما دخل السجن شابًا في الثامنة عشرة".
جنان ووالدها: أمل لم ينقطع رغم الصمت الطويل
جنان، من جنوب لبنان، تمثل قصة أخرى من المعاناة. في عام 2006، عبر والدها الحدود إلى سوريا بحثًا عن ملاذ آمن لعائلته خلال حرب إسرائيل وحزب الله. تقول جنان لـ"الغارديان": "بمجرد وصوله إلى منزل أقاربنا، اقتحم الجنود السوريون المكان واعتقلوه. منذ ذلك اليوم، لم نسمع عنه شيئًا".
بعد سنوات من البحث ودفع ما يقارب 5,500 دولار كرشاوى لوسطاء، تلقت العائلة إشارات تفيد بأن والدها محتجز في صيدنايا أو أحد الفروع الأمنية بدمشق، لكن دون تأكيد. "ما زلت أرى صور المحررين وأبحث عن وجهه. الأمل لا يزال حيًا في داخلي بأنه سيعود يومًا".
مملكة الصمت: واقع السجون السورية
التعذيب والقمع على "مقياس صناعي"
تُعد السجون السورية رمزًا للقمع والوحشية. وصفها تقرير الغارديان بأنها "مملكة الصمت"، حيث يُستخدم الاعتقال والتعذيب كأدوات رئيسية لسحق المعارضة. وفقًا لتقديرات حقوقية، كان نحو 136,000 شخص محتجزين حتى وقت قريب، بينهم لبنانيون وفلسطينيون وآخرون من جنسيات مختلفة.
فاضل عبد الغني، مؤسس الشبكة السورية لحقوق الإنسان، قال: "كثير ممن أُعلن عن اختفائهم قُتلوا تحت التعذيب. السجون ليست فقط أماكن احتجاز، بل أدوات لإرهاب المجتمع".
أوضاع مأساوية خلف الأسوار
من بين المحررين الذين خرجوا من سجن حماة، وصف شهود عيان حالتهم الجسدية والنفسية بالمروعة. يقول شاهد لـ"الغارديان": "بعضهم بدوا وكأنهم أشباح. الجوع، الأمراض، والتعذيب تركوا آثارًا واضحة على أجسادهم".
رمزية تحرير حماة: بين الألم والأمل
جراح الماضي التي لا تُنسى
تحرير سجن حماة يأتي في مدينة تحمل تاريخًا دمويًا، حيث شهدت مجازر مروعة في الثمانينيات. تقول الناشطة الحقوقية سيلين قاسم لـ"المدن": "حماة تحمل جراحًا لم تلتئم. تحرير المدينة والسجناء ليس فقط لحظة فرح، بل هو أيضًا رسالة بأن القمع لا يدوم".
تحديات ما بعد التحرير
رغم التحرير، تواجه العائلات صعوبات في الوصول إلى أحبائها بسبب الارتباك في التعرف عليهم. بعض العائلات لم تتمكن بعد من التأكد من وجود أبنائها بين المحررين. يقول معمّر: "حتى أرى أخي وأتحدث معه، لن أشعر بالراحة. الصورة ليست كافية".
الأبعاد السياسية: ملفات شائكة بلا حلول
على مدى عقود، استمر الإنكار الرسمي من الحكومات اللبنانية بشأن وجود معتقلين لبنانيين في سجون النظام السوري، رغم تقارير حقوقية وشهادات متواترة تؤكد العكس. هذا الإنكار لم يكن مجرد تجاهل للقضية، بل تحول إلى جدار من الصمت السياسي، مما عمّق معاناة العائلات اللبنانية التي ظلت تبحث عن أبنائها المفقودين دون أي دعم رسمي.
تقول الناشطة الحقوقية سيلين قاسم لـالمدن: "الإنكار الرسمي لم يكن فقط تقصيرًا في أداء الواجب الوطني، بل إهانة صريحة لعائلات كانت تعرف أن أبناءها مختطفون في سجون الأسد. كيف يمكن لدولة أن تتجاهل مواطنيها بهذه الطريقة؟".
غياب أي جهود دبلوماسية أو إنسانية
رغم العلاقات التاريخية المعقدة بين لبنان وسوريا، لم تُظهر أي حكومة لبنانية جدية في فتح ملف المعتقلين اللبنانيين لدى النظام السوري، سواء خلال فترة الوصاية السورية (1976-2005) أو بعدها.
حتى مع وجود أدلة دامغة وشهادات معتقلين سابقين تؤكد وجود لبنانيين داخل السجون السورية، لم تُتخذ أي خطوات ملموسة لتشكيل لجنة تحقيق مستقلة، أو حتى لممارسة ضغوط دبلوماسية لإطلاق سراحهم.
الضغوط الأهلية والمجتمع المدني
لم تكن عائلات المعتقلين وحدها في مواجهة هذا التجاهل، بل تحركت منظمات حقوقية وجمعيات أهلية لبنانية وسورية للضغط على السلطات اللبنانية، لكن دون تحقيق نتائج تُذكر.
فاضل عبد الغني، مؤسس الشبكة السورية لحقوق الإنسان، قال في تصريح سابق إن هذا التجاهل ليس وليد اللحظة، بل هو جزء من "موروث سياسي يعكس ضعف الدولة اللبنانية أمام النظام السوري".
قصص عائلات واجهت الإنكار
معظم العائلات اللبنانية التي فقدت أبناءها في سجون النظام السوري واجهت معركة طويلة مع البيروقراطية والإنكار الرسمي. جنان، التي لا تزال تبحث عن والدها منذ اعتقاله في سوريا عام 2006، تقول: "زرنا العديد من الوزارات اللبنانية، لكن الردود كانت مخيبة للآمال. كانوا ينكرون حتى إمكانية وجود لبنانيين في تلك السجون، وكأننا نتخيل الأمر".
عائلة علي حسن العلي عاشت تجربة مشابهة. يقول معمّر: "عندما كنا نسأل المسؤولين، كانوا يقولون لنا إن لا علاقة للدولة اللبنانية بهذه القضية. كيف يمكن لدولة أن تترك مواطنيها بهذا الشكل؟".
تحولات بطيئة في الخطاب العام
مع تحرير مئات السجناء في معركة حماة الأخيرة، بدأ الحديث عن المعتقلين اللبنانيين يعود للواجهة. ورغم عدم صدور أي تصريح رسمي من الحكومة اللبنانية بشأن المحررين، إلا أن هذا الحدث سلط الضوء مجددًا على القضية، ودفع بعض النواب والنشطاء للدعوة إلى تحرك جاد.
سيلين قاسم علّقت: "لا يمكن للبنان الاستمرار في هذا النهج من الإنكار. هذه اللحظة تتطلب وقفة إنسانية وسياسية. العائلات تحتاج إجابات، والمعتقلون يحتاجون دعمًا حقيقيًا للعودة إلى ديارهم".
العودة المنتظرة: تحديات لوجستية وإنسانية
تعقيد الوضع الميداني
رغم تحرير السجناء، يبقى عودتهم إلى لبنان تحديًا كبيرًا في ظل الوضع الميداني المعقد في سوريا. مع استمرار المعارك في مناطق الشمال السوري، يصعب تأمين مسارات آمنة لعبور المحررين إلى الأراضي اللبنانية.
وفقًا لمصادر هيئة تحرير الشام، فإن الخيارات المتاحة تشمل نقل المحررين عبر الحدود التركية أو انتظار استقرار الأوضاع لفتح طرق مباشرة إلى لبنان. لكن حتى هذه الخيارات تواجه تحديات لوجستية وأمنية كبيرة.
رعاية مؤقتة للمحررين
مصادر ميدانية أكدت أن المحررين يتم نقلهم إلى أماكن آمنة مؤقتة في مناطق سيطرة المعارضة السورية، حيث يتلقون الرعاية الطبية والنفسية اللازمة. بعض المحررين وصلوا بحالة صحية متدهورة، بسبب سنوات من سوء التغذية والتعذيب.
مطالب حقوقية بتحرك دولي
مع تزايد الضغط الإعلامي حول قضية المعتقلين، دعت منظمات حقوقية الحكومات اللبنانية والدولية إلى العمل على ضمان عودة المحررين بأمان، وفتح تحقيقات شاملة حول مصير بقية المفقودين.
فاضل عبد الغني يقول: "تحرير هؤلاء المعتقلين ليس نهاية المطاف. يجب أن يكون نقطة انطلاق لحملة دولية تهدف إلى كشف الحقيقة عن آلاف المفقودين الذين لا يزالون خلف قضبان النظام".
رغم لحظات الفرح التي عاشتها بعض العائلات بعد رؤية صور أحبائها المحررين، يبقى القلق والخوف حاضرًا. كثير من العائلات لم تتمكن من التواصل المباشر مع أبنائها حتى الآن. يقول معمّر حسن العلي: "حتى أراه أمامي وأحضنه، لن أشعر بالراحة. الصورة وحدها لا تكفي".
جنان تشارك نفس الشعور، مضيفة: "إذا عاد والدي، ستكون تلك أعظم لحظة في حياتي. لكن حتى ذلك الحين، لا نملك سوى الانتظار والصلاة".
التعليقات