الأحد: 23. 10. 2005

... ما أشبه الليلة بالبارحة

هل هي صفقة «قذافية» حقاً بين واشنطن ودمشق؟!

عندما اعلن نبأ انتحار غازي كنعان وزير الداخلية السوري لم تقرن وسائل الاعلام العربية والاجنبية ذلك الحدث بغير مثيله الذي وقع قبل نيف وخمسة اعوام عندما انتحر محمود الزعبي رئيس الوزراء السوري الذي اقيل او استقال من منصبه متهماً بالضلوع والتورط في الفساد.. ومع اختلاف ما قيل عن انتحار كنعان وعلاقاته بما كان من دور له في لبنان على مدى عشرين عاماً من الوجود حاكماً مطلقاً متحكماً في الشأن اللبناني على نحو اعترف به القاصي والداني من السوريين واللبنانيين.

ومع الفارق الكبير بين حالتي انتحار الزعبي وكنعان، فقد غاب عن ذاكرة الكثيرين ممن تابعوا انتحار كنعان ان يعودوا الى حادث انتحار متطابق السمات والملامح معه، ولا يختلف عنه الا بوقوعه قبله بما يزيد عن خمسة وثلاثين عاماً، واعني به حادث انتحار العقيد عبدالكريم الجندي مدير الامن القومي في نظام الحكم السوري الذي كان على رأسه شكلياً الدكتور نور الدين الأتاسي وكان الممسك بسلطانه اللواء صلاح جديد بوصفه الأمين العام المساعد لحزب البعث العربي الاشتراكي، وكان عبدالكريم الجندي من غلاة المتطرفين في دعوة الالتحام بالمعسكر الاشتراكي بعدما حدثت هزيمة يونيو 1967 وفي شتاء 1969 حدثت ازمة واشتباك بين جماعة الحكم في دمشق، ففريق كان يدعو للاستعداد والمغامرة باشعال فتيل الحرب مع العدو الاسرائيلي حتى ولو اقتضى الحال ان تكون حرباً شعبية شبيهة بحرب فيتنام مع القوات الاميركية، وكان على رأس ذلك الفريق اللواء صلاح جديد ومن جماعته العقيد عبدالكريم الجندي الذي لم تكن له شعبية تسند مركزه الوظيفي الذي ربما لم يكن قد احسن التصرف في ممارسته بالنسبة للتعامل مع السياسيين المخالفين في الرؤى والاتجاهات لنظام الحكم يومذاك، فضلاً عن ان الجندي كان من طائفة الاسماعيلية، وهي اقلية طائفية ليس لها في سوريا ما كان للطائفة العلوية من وجود ونفوذ على خريطة الحكم في سوريا منذ عام 1963 وحتى اليوم.

وعندما نشبت ازمة شتاء 1969 بين فريقي السلطة وكان على رأس أولهما صلاح جديد ومعه رئيس الدولة نور الدين الأتاسي بينما كان على رأس الفريق الثاني الفريق حافظ الأسد وزير الدفاع وقائد سلاح الطيران، ومع ان جديد والاسد من الطائفة العلوية فقد اختلفت بهما السبل من حيث النهج السياسي وتقاطع اتجاه كل منهما بالنسبة لما افرزته هزيمة 1967، او لربما حتى بالنسبة لما يطمح اليه كلاهما من التفرد بالسلطة والانفراد بالزعامة الى جانب احتكار سلطة اتخاذ واصدار القرار في الشؤون والقضايا والمواقف الاستراتيجية، وحيث كان حافظ الاسد على رأس الجيش والقوات المسلحة باعتباره وزير الدفاع وقائد سلاح الطيران فان صلاح جديد كان الى جانبه في مواجهة الاسد، فضلاً عن رئيس الدولة وجهاز الحكم السياسي، قائد الأمن القومي العقيد عبدالكريم الجندي ومن بأمرته من تشكيلات الأمن القومي وما تضم من عناصر المخابرات واجهزة الامن.

وعاشت دمشق ليالي حالكة الظلام مشدودة الاعصاب لما يمكن ان تسفر عنه ازمة الصراع في اسرة الحكم، خشية ان يؤدي الخلاف السلمي في الرأي الى اشتباك دموي بين اسلحة كلا الفريقين!

وقد «قطعت جهيزة قول كل خطيب» عندما اعلن راديو دمشق، فجأة وعلى غير انتظار، نبأ انتحار العقيد عبدالكريم الجندي في مكتبه بمقره، مقر الأمن القومي العام.. وهكذا طويت صفحة الازمة المشتعلة بين جناحي صلاح جديد وحافظ الأسد، ولو الى حين.. حيث انشغل المتخاصمون بانتحار الجندي، كما ظلت الاشاعات تتردد في شتى المحافل متسائلة باستغراب عما اذا انتحر الجندي حقاً ام انه نحر برصاص خصومه.. كما رود كثيرون في لبنان وجهات كثيرة أخيراً وعند الاعلان عن انتحاز غازي كنعان: هل نحر هذا الرجل القوي ام غيبته حقاً رصاصة الانتحار؟!

وبعد يومين اثنين من انتحار عبدالكريم الجندي جاءت المفاجأة الصاعقة بما نشرته صحيفة «النهار» البيروتية لما اسمته «وصية عبدالكريم الجندي» وقد كتبها لتنشر بعد وفاته.. ولم تكن تلك الوصية تتحدث عن شؤون شخصية كما هي حال الوصايا التي يكتبها الاشخاص لتطبق بعد ان تدركهم الوفاة انما كانت وصية سياسية، وكانت تتناول اموراً تتصل بالازمة والصراع اللذين نشآ بين جناحي صلاح جديد وحافظ الاسد، واخطر ما ورد في الوصية دعوة الجندي رفاقه الى الحذر من ارتباط حافظ الاسد بالمخططات الاميركية التي ستقود سوريا الى الارتباط بل الانقياد الى تنفيذ تلك المخططات الضارة بالمصالح السورية، وجاء نشر وصية الجندي في ذلك الجو السياسي المشحون بالاشاعات التي تتحدث عن نحر عبدالكريم الجندي وليس انتحاره، وبينما هدأت حدة الازمة بين جناحي جديد والاسد فقد بادرت السلطات السورية الى اعتقال الشاعر علي الجندي ابن عم عبدالكريم عند عودته من بيروت بعد رحلة عادية له في زيارة العاصمة اللبنانية، كما كان من عادته ان يفعل باستمرار.. وقد اتهم بانه الذي اوصل وصية عبدالكريم الجندي الى جريدة «النهار» علماً بان علي الجندي ذو مزاج بوهيمي وهو بعيد تماماً عن ابن عمه عبدالكريم بل انه يعتبر على النقيض من اتجاه ومسلك عبدالكريم الجندي البوليسي النزعة وعندما اطلق سراح الشاعر علي بعد التأكد من براءته من تهمة ايصال وصية ابن عمه الى الجريدة، كان علي يلعن لرفاقه من الاعلاميين والادباء تلك الصلة التي جمعته بعبدالكريم الجندي التي هي صلة دم ولم تكن صلة فكر ابداً.

ولنعد الى انتحار غازي كنعان.. لنسمع كثيرين من سياسيي لبنان ورجال اعلامه المقروء والمرئي والمسموع وهم يشككون في سبب وفاة من دانت مقاليد السلطة في لبنان طيلة عقدين من الزمان- اي من عام 1982 حتى عام 2002 لم تكن وفاته انتحاراً، انما هي نحر اي قتل مع سبق الاصرار!

وعندما يصرح سياسيون لبنانيون بان غازي كنعان كان من معارضي التمديد لولاية الرئيس اللبناني اميل لحود، ذلك التمديد الذي فرضته سوريا على رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري وكان من عقابيله اغتيال الحريري بذلك الحادث المأساوي الذي فجر الاوضاع في لبنان وادى التمديد للحود واغتيال رفيق الحريري الى التدخل الاميركي والفرنسي وصدور قرار من مجلس الامن الدولي برقم 1559 و 1595 تسببا في حمل سوريا على سحب قواتها العسكرية وطواقمها الامنية من لبنان وتكليف الأمم المتحدة بالتحقيق الدولي في اغتيال رفيق الحريري.

ولعل اغرب ما قرأناه عن تداعيات انتحار غازي كنعان ذلك الذي نشرته صحيفة «التايمز» اللندنية عن صفقة بين واشنطن ودمشق سميت «الصفقة القذافية» اسوة بالتنازلات التي قدمها معمر القذافي للولايات المتحدة الاميركية من تصفية ما كان يملك من اسلحة الدمار الشامل وتعويض صحايا اسقاط طائرة البان اميركان في لوكيربي بمليارات الدولارات وغير ذلك من منح الامتيازات النفطية للوكالة الاميركية.. ولتكون الصفقة الاميركية مع دمشق وهي تتألف من عدد كبير من البنود ثمناً لسلامة النظام السوري من ان يتعرض لما تعرض له العراق!

وقد يكون لزاماً علينا ان نعود بالزمن الى خريف 1970 عندما قام الرئيس حافظ الاسد بانقلابه على رفاقه مجموعة صلاح جديد ونور الدين الأتاسي ويوسف زعين وابراهيم ماخوس، ودفع وزير الخارجية الاميركية هنري كيسنجر لدخول قواته لبنان ليساعد في لجم الحركة الوطنية والفلسطينية على ارضه بدلاً من ان يجعل حافظ الاسد يحقق انسحاباً اسرائيليا- ولو بأدنى المستويات من الجولان المحتل كما فعل انور السادات باتفاقيتي فك الارتباط التي حققت لمصر ارتداد القوات الاسرائيلية عن بعض اراضي سيناء!!

واخيراً متى ينعتق العرب من لعنة «ما اشبه الليلة بالبارحة»؟!