الإتحاد: الأربعاء: 22 ـ 06 ـ 2005

في المشهد السياسي العراقي تحت الاحتلال الأميركي, أخبار القتل والدم, وأخبار المقاومة تتفوق في عددها وحجمها, وفي تداعياتها على أخبار التوافقات والحلول السياسية. منذ بداية الاحتلال منذ أكثر من سنتين وعمليات المقاومة والإرهاب لم تتوقف. حمامات الدم مستمرة بشكل يومي. وفي الثلاثة أسابيع الأخيرة فقط, وحتى يوم الإثنين الماضي, وصل عدد القتلى إلى أكثر من ألف قتيل. القوات الأميركية تفقد على الأقل واحداً من عناصرها يوميا. انتقلت السلطة إلى العراقيين, وتمت الانتخابات التشريعية وعلى أساسها تشكلت حكومة الجعفري المؤقتة, لكن ذلك لم يؤدِّ إلا إلى زيادة العنف والقتل. فلماذا تبدو العملية السياسية في العراق متعثرة؟ وهل هي بالفعل تتجه نحو الفشل؟
يحدث ذلك رغم أن العراقيين موعودون بالديمقراطية والحرية بعد عقود وقرون من الطغيان والاستبداد, ورغم أن أغلبية العراقيين, الشيعة والأكراد, حلفاء لأميركا, ورغم أن إيران لم تعارض الاجتياح الأميركي لإسقاط صدام حسين, وتدعم الأحزاب والقوى الشيعية المتحالفة مع الأميركيين, ورغم أن الدول العربية تتعاون مع الولايات المتحدة لتهدئة الأوضاع في العراق, وتدعم الحكومة العراقية. رغم كل ذلك, إلا أن المقاومة, التي يفترض أنها الآن معزولة وضعيفة, هي التي تحقق نجاحاً بعد آخر في زعزعة الأمن, وتعميق عدم الثقة بالشعارات الأميركية, وبالعملية السياسية التي تتواصل في ظلها.

وصل الأمر أن أنصار الحرب من الأميركيين, والذين باركوا اجتياح بغداد كمقدمة لتأسيس "الديمقراطية", طالتهم ظلال الشك في إمكانية نجاح المهمة. تعبر عن ذلك أدبيات في الـ"واشنطن بوست", والـ"فورين أفيرز", والـ"فورين بولاسي", والـ"نيشين", والـ"نيويورك رفيو أوف بوكس", ...الخ. آخر ضحايا الشك كان الكاتب توماس فريدمان: ليبرالي, ومتحدث ثقافي باسم الحرب على العراق. في مقالته الأخيرة يوم الأربعاء الماضي في الـ"نيويورك تايمز" عبر عن مخاوفه الدفينة. عنوان المقالة كان ذا دلالة: "دعونا نتحدث عن العراق", حيث لاحظ أن الجميع في واشنطن لا يريدون الحديث عن العراق هذه الأيام. المحافظون يتحاشون الحديث لأنهم يعتقدون أن مهمتهم لا تتجاوز تمجيد كل ما تفعله إدارة بوش, والليبراليون لا يريدون الحديث لأنهم في أعماقم يتمنون فشل هذه الإدارة.

محاولة الجميع تجنب الحديث عن العراق علامة على تسرب اليأس. لكن هذا "ليس وقت التسليم بالهزيمة", كما يقول فريدمان, مؤكدا أن "إمكانية النصر لا تزال قائمة". لكنه ليس في مأمن من اليأس عندما يقول,"لا أزال لست متأكدا من إمكانية تحول العراق إلى بلد ديمقراطي يعتمد على نفسه... ربما أن الوقت أصبح متأخراً الآن, لكن قبل أن نسلم بالفشل لماذا لا نحاول أن نفعل الشيء الصحيح؟" والغريب أنه, وبعد أكثر من سنتين, يتساءل: "ما هي استراتيجيتنا في هذه الحرب؟". لماذا لا ينظر إلى الأمر من الزاوية الأخرى: لا تزال هناك استراتيجية, لكنها فشلت. سيكون أمراً مذهلا أن تجتاح القوة الأعظم العراق بهدف تغيير المنطقة من دون استراتيجية, والأكثر مدعاة للذهول أن بعض أبرز مثقفي هذه القوة العظمى يتحمسون لحرب من دون استراتيجية, ثم يتساءلون عن هذه الاستراتيجية لاحقاً.

مرة أخرى, لماذا يستمر تعثر العملية السياسية في العراق؟ هناك ثلاثة أسباب. الأول, السياسة الأميركية التي تتسم بخليط من العنجهية والاستهتار في سلوكها, وبالغموض في أهدافها. تبدت العنجهية في الدمار الذي ألحقته بالنجف والفلوجة العام الماضي, ولا تزال تلحقه في مختلف مناطق العراق. ضحايا المدنيين العراقيين على يد القوات الأميركية لا يقلون عن ضحايا الإرهاب. أما الاستهتار فكشفته فضائح سجن أبو غريب, وأخبار إهانة المصحف الشريف في سجون غوانتانامو. كل ذلك عمق من مشاعر الشك والعداء لدى العراقيين تجاه السياسات الأميركية.

الشيء الوحيد الذي يبدو أنه يجعل من الوجود العسكري الأميركي مقبولا إلى حد ما هو أنه الصمام الوحيد لعدم انزلاق المجتمع العراقي إلى حرب أهلية مدمرة. ما عدا ذلك, ليس لهذا الوجود من شعبية يمكن الركون إليها. ومما يزيد من عدم مصداقية الإدارة أنها تخفي أهدافها من وراء حربها على العراق. فقدت القوات الأميركية حتى الآن أكثر من 1700 قتيل, وعشرات الآلاف من الجرحى. وأنفقت على الحرب أكثر من مائتي بليون دولار. كل ذلك من أجل ماذا؟ ولأي هدف؟ عندما تستمع إلى بوش, أو الكاتب الأميركي "توماس فريدمان", سيقولان لك إن القوات الأميركية جاءت إلى العراق في مهمة رسولية: تحويل العراق إلى نموذج للديمقراطية والحرية والرخاء الاقتصادي. ماذا سيعود ذلك على الولايات المتحدة؟ لاشيء, أو صمت يوحي بأن أميركا لا تريد من العراقيين شيئا. هل هذا معقول؟ طبعاً لا. والعراقيون يدركون ذلك.

السبب الثاني أن إدارة بوش اجتاحت العراق على أساس خطة لا يبدو أنها تستطيع تغييرها الآن لتغيير الموقف لصالحها, وصالح "الديمقراطية". حجم القوات الأميركية ليس كافيا لضبط الأمن, ومواجهة جماعات العنف والمقاومة بعد سقوط النظام. المطلوب هو على الأقل مضاعفة هذا الحجم إلى أكثر من ثلاثمائة ألف. لكن إقرار إدارة بوش بذلك يعني إقراراً بفشلها وفشل خططها لأكثر من سنتين على بدء الحرب والاحتلال. هذا سيمثل ضربة سياسية موجعة للإدارة داخل أميركا, واعترافاً رسمياً بنجاح المقاومة في مهمتها, وهو ما تريد الإدارة تفاديه بأي ثمن. لكن عدم الاعتراف بذلك, يعني استمرار تدهور الوضع الأمني, ومعه تراجع فرص نجاح العملية السياسية, وزيادة التكاليف الأميركية.

ثالث الأسباب وأخطرها, أن إعادة تشكيل النظام السياسي الجارية الآن ترتكز على عنصرين متناقضين: أن هذا النظام يجب أن يكون ديمقراطياً, على عكس ما كان عليه نظام صدام حسين. في الوقت نفسه يجب أن يعتمد على أسس طائفية وإثنية. بعبارة أخرى, يراد للعراق أن يستنسخ التجربة اللبنانية, باعتماد نموذج الـ"ديمقراطية التوافقية", لا "ديمقراطية الأغلبية". ما يتم تجاهله هنا أن عملية الاستنساخ هذه لا تأخذ في الاعتبار الاختلاف بين الحالتين العراقية واللبنانية. في لبنان حصل تبني الـ"ديمقراطية التوافقية" مع بداية تشكيل الدولة, وقبل خضوع طائفة لسلطة طائفة أخرى. لم يكن هناك شعور بالهزيمة أو النصر لهذه الطائفة على تلك. الحالة العراقية على العكس من ذلك. هنا يعاد تشكيل الدولة من جديد في ظل احتلال جديد, وبالتحالف مع طائفة ضد أخرى. بعبارة أوضح, في الحالة العراقية, هناك طائفة منتصرة, هي الطائفة الشيعية, وأخرى مهزومة, وتشعر بالغبن, هي طائفة السنة العرب. والنتيجة تعكس هذا المنحى: توزيع حقائب الحكومة بعد انتخابات لم يشارك فيها السنة تم على أساس محاصصة طائفية, والنظام الفيدرالي يتأسس على قاعدة طائفية وإثنية, وتشكيل لجنة كتابة الدستور يتم على الأساس نفسه. لا بل هناك ميليشيات طائفية وإثنية تتشكل في أنحاء العراق, بالتعاون مع, أو في مواجهة قوات "البشمركة" الكردية, ومنظمة بدر الشيعية, والأخيرة تشبه حزب الله في لبنان. وهناك صحف ومحطات فضائية تتحدث باسم هذه الطائفة أو تلك.

عناصر الخطورة والتفجير هنا ثلاثة: أن نظام صدام المخلوع يعتبر أنه كان يمثل السنة العرب, وبالتالي فإن سقوطه اعتبر هزيمة لهذه الطائفة, وانتصاراً للطائفة الشيعية. ثانياً, أن عملية فرض هذا النموذج تتم بواسطة استقواء طائفة بقوة احتلال أجنبية. وثالثاً, أن تطبيق هذا النموذج في نظر السنة العرب ليس إلا غطاء لفرض هيمنة الطائفة الشيعية. بعبارة أخرى, ينظر السنة العرب إلى ما يحدث على أنه عملية انتقام من ماضٍ سياسي لا يعتبرون أنه كان يمثلهم, أو أنهم استشيروا فيه.

وسط كل ذلك لم يبرز قائد سياسي وطني يلتف حوله العراقيون بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم. هناك قادة دينيون, وتحديداً قادة طوائف دينية, مثل آية الله علي السيستاني للشيعة, والشيخ حارث الضاري للسنة. وهناك قادة أكراد تقليديون. في مقابل ذلك ليست هناك قيادة سياسية مستقلة خارج إطار الطائفة أو الانتماء الإثني. كل المنخرطين في العملية السياسية يعتمدون بشكل حصري على مصدرين: الدعم الأميركي, أو الدعم الطائفي أو الإثني, أو كليهما معا. وهذا إطار سياسي صالح فقط للانقسام, والصراعات والمؤامرات, وليس لبناء الديمقراطية, والتأسيس لاستقرار سياسي قابل للاستمرار. طريق الخروج واضح: تبني مبدأ علمانية الدولة, وديمقراطية الحكم, ومفهوم المواطنة المستند إلى الحرية والمساواة. من دون ذلك, ليس هناك إلا واحد من خيارين: بقاء القوات الأميركية إلى أجل غير معلوم, أو الانزلاق إلى حرب أهلية مدمرة.