حكم البابا


لو طلب من تلميذ مدرسة ابتدائية عربية منذ عشر سنوات أن يجيب علي سؤال امتحاني في مادة الجغرافيا عن أهم قناة في الأرض العربية، فإني أجزم بأنه لن يتذكر قناة السويس، وسيقول بكل ثقة انها قناة الجزيرة!
ولو سئل أي طالب عربي في امتحان مادة التربية القومية للمرحلة الاعدادية منذ عشر سنوات عن الكيان الهجين الذي زرع في قلب الوطن العربي، فأكاد أكون متيقناً انه سيذكر قناة الجزيرة وينسي اسرائيل!

ولو كان المتنبي لا يزال علي قيد الحياة قبل عشر سنوات، لمنعه حياؤه من قول بيت شعره الشهير (الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم) بوجود قناة الجزيرة(!!)

شكّل ظهور قناة الجزيرة التلفزيونية قبل عشر سنوات حدثاً استثنائياً عربياً، فقد اعتبرتها الأنظمة العربية اختراقاً للجسد العربي، وجيشّت من أجل الرد عليها إعلامياً وسياسياً ودبلوماسياً، مالم تجيشه لمواجهة اسرائيل عبر تاريخ الصراع العربي الصهيوني كله، لأنها اعتبرت أن الحرية الاعلامية للجزيرة أخطر علي عروشها وكراسيها من جيش الدفاع الاسرائيلي وقوات المارينز الأمريكية والحرس الثوري الايراني مجتمعين، وكانت المهمة الوحيدة لأي سفير عربي يرسل إلي قطر لتمثيل دولته، هي الجلوس أمام شاشة التلفزيون لمراقبة قناة الجزيرة، وكتابة التقارير ببرامجها إلي دولته، والشكاوي علي هذه البرامج إلي وزارة الخارجية القطرية وإدارة قناة الجزيرة، إلي الحد الذي كان يمكن فيه استبدال اسم أي سفارة عربية في قطر بالمكتب المصري أو السوري أو التونسي أو المغربي للشكاوي علي قناة الجزيرة، وكانت التوجيهات الوحيدة التي يزود بها السفراء العرب قبل سفرهم إلي الدوحة من قبل وزارات خارجيتهم، ليس تطوير العلاقات الدبلوماسية، أو تحسين التبادل التجاري، أو اغراء رؤوس الأموال القطرية للاستثمار في بلدانهم، وإنما الحرص والتأكد من عدم وجود ريمونت كونترول لتبديل القنوات التلفزيونية في مبني السفارة أو منزل السفير، قد يغريهم بالانتقال لمشاهدة قناة أخري غير الجزيرة، فينشغلون عن مهماتهم التي أرسلوا لأجلها، وجهوزية حقائب سفرهم استعداداً لسحبهم عقب إذاعة أي خبر أو بعد عرض أي برنامج، إلي الحد الذي يجعل أي سفير عربي يجيب كل صباح علي تساؤل زوجته التقليدي عن نوع الطعام الذي يفضل تناوله علي الغداء، بـأنه لا يستطيع أن يجزم ماإذا كان سيتناول غداءه في منزله في الدوحة، أم في الطائرة التي ستعيده إلي عاصمة بلده مسحوباً من قبل وزارة خارجيته، فذلك متوقف علي أخبار وبرامج قناة الجزيرة، وكان مقدمو برامجها أمثال فيصل القاسم أو أحمد منصور أو سامي حداد مؤثرين في العلاقات الدبلوماسية العربية أكثر من عمرو موسي أمين عام جامعة الدول العربية، وكل وزراء الخارجية العرب مجتمعين.

وعلي عكس حالة التشنج التي كانت قناة الجزيرة سبباً في جعل الحكام العرب يعيشون علي أعصابهم قبل كل نشرة أخبار تبثها، أو برنامج تقدمه، كان المواطنون العرب ينظرون إلي قناة الجزيرة باعتبارها فرع مخابرات للتحقيق مع حكامهم والتشهير بهم أمام ثلاثمئة مليون عربي وعلي الهواء مباشرة، وكان أي مواطن عربي يتعرض لقهر سلطوي، أو لإذلال حكومي يذهب من فوره إلي جهاز تلفزيونه ليشاهد قناة الجزيرة التي تنتقم لكرامته المهدورة علي مدار الساعة، فتعرض عملاً وثائقياً عن السجون في بلده، أو تقدم برنامجاً عن استبداد سلطته، أو تذيع خبراً عن فساد حكومته فيشعر بالرضا، ويحمد ربه علي أنه أبقاه علي قيد الحياة إلي اليوم الذي ظهرت فيه قناة الجزيرة لتنتقم ولو إعلامياً من ظالميه، ويتحسر علي أقاربه الموتي متمنياً لو عاشوا إلي يومه ليشاهدوا اقتصاصها من حكامه.
قضت قناة الجزيرة أكثر من نصف عمرها الذي تحتفل هذه الأيام بسنواته العشر، باعتبارها سنداً للمواطن العربي المقهور، وبغض النظر عن دوافعها وأهداف مموليها ومرامي الجهة التي تقف وراء سياستها، فقد أحدثت حالة من الحرية في الشارع العربي، إلي الحد الذي يمكن تقسيم عصر الاستــــبداد العربي الحديث إلي مرحلتـــين واضحتين، ماقبل ومابعد قنــــــــاة الجزيرة، واستطاعت رغم محيط الغــــضب العربي عليها، أن تخلــــق نوعاً من العدوي ولو الخفيفــــة في الاعلام العربي، بحيث أصبح إعلام الأنظــــمة العربية الرسمي يحسب ألف حساب بوجود الجــزيرة فيما لو أراد أن يتكتم علي خبر أو يخفي حادثة أو يتجاهل رأياً، لكن بما أن الحلو مايكملش علي حد قول اخوتنا المصريين، فقد تحولت قناة الجزيرة منذ أحداث 11 أيلول من محطة تلفزيونية إلي جبهة حرب، وعلي الرغم من مهنيتها الاعلامية الاّ أن المتابع لبرامجها لا يعوزه كثير من الذكاء لاكتشاف أنها لم تعد تفرق بين السبق الصحافي وبين المصدر الاعلامي، بحيث تحولت إلي مايشبه الموقع الرسمي لبث رسائل الشيخ أسامة بن لادن والدكتور أيمن الظواهري الإذاعية والتلفزيونية، والجهة الأكثر احتفاء وعرضاً للرسائل المصورة عن عمليات التفجير التي تقوم بها التنظيمات العسكرية في العراق، وغاب الخطاب المتنور الحرياتي (من الحرية) الذي كان أهم ماجذب المشاهد العربي إلي شاشتها، لصالح خطاب ديني قومي متشدد، هو في جوهره إعادة إنتاج لخطـــاب الأنظـــمة العربية الاستبدادية التي بنت سلطـــاتها وأطالت أعمـــــــــارها باستخدام شعارات مقاومة الاستعمار ومحاربة الامبريالية الأمريكية وتحرير فلسطين، وكل مافعلته علي أرض الواقع هو السماح لاسرائيل بالتوسع، وقمع شعوبها ونهب ثرواتها ومهما كانت التبريرات التي قد تجدها قناة الجزيرة لنفسها باعتبـــــارها إعلاماً شعــــبوياً، يريد ارضاء جمهور عريض من العــــــرب، يري أنه يعيش مرحلـــة جهادية متأججة في مواجهة أعداء يستهــــــدفون وجوده، فإن علـيها ألاّ تتجاوز الخط الفاصل الذي يحولها من قناة الجزيرة التلفزيونية الفضائية، إلي جبهة الجزيرة التلفزيونية لتحرير أفغانستان والعراق وفلسطين وإعادة فتح الأندلس، فما تفعله اليوم سواء بإرادة سياسية مقصودة، أو بدافع من الانتماءات الحزبية للعاملين فيها، يحولها إلي صياغة تلفزيونية لخطاب أحمد سعيد الاذاعي، ويجعلها إحدي القنوات التلفزيونية الرسمية العربية لا أكثر.

في بدايات إطلاق قناة الجزيرة كان الرسميون العرب يكرهونها لكنهم ينتظرون برعب نشراتها وبرامجها ويحرصون علي مشاهدتها، أما اليوم فالكل يحبون الجزيرة، لكنهم يفوتون كثيراً من أخبارها وبرامجها، ليس لأنهم لم يعودوا يخشونها فقط، وإنما لأنهم يعتبرون أنفسهم مشاركين في تحريرها وإعدادها، وفي حال استمرارها بهذه السياسة لن أستغرب في وقت قريب مشاهدة نشرات أخبار الجزيرة تبدأ بأخبار الزعماء العرب وهم يستقبلون ويودعون ضيوفهم ويبحثون معهم الأمور الثنائية التي تهم البلدين الشقيقين!