د. عبدالله المدني



يمكن القول إن أكثر الخطوات أهمية وحسماً في الحرب ضد الإرهاب، هي ما تقوم به الدول من إجراءات وقائية أو جراحية ضمن حدودها، وباستخدام ما تحت يدها من أدوات ووسائل ومعلومات، على أن يسبقها بطبيعة الحال اعتراف صريح بوجود أنشطة أو تهديدات إرهابية مع تحديد مصادرها. وقد ثبت من تجربة إندونيسيا التي ظلت تتلكأ طويلاً في الاعتراف بوجود شبكات إرهابية على أراضيها، إلى أن حدثت تفجيرات quot;باليquot; الأولى في أكتوبر 2002، أنه كلما تأخرت الدولة في الاعتراف بوجود إرهابيين ضمن حدودها لأسباب مثل حرصها على سمعتها الدولية، أو خوفاً من انقطاع تدفق السياح والاستثمارات الأجنبية عليها، أو طمعاً من نظامها الحاكم في كسب بعض الأصوات الانتخابية، ازدادت عملية التصدي للجماعات الإرهابية صعوبة.

يأتي بعد ذلك دور الجهود الجماعية التي باتت ملحة أكثر من أي وقت مضى بسبب اتجاه الجماعات الإرهابية إلى التعاون والتنسيق وتبادل المعلومات والخبرات والأموال والعتاد عبر الحدود انطلاقاً من تشابه أيديولوجياتها أو تقاطع أجنداتها أو سعيها إلى هدف أممي كما في حالة تنظيم quot;القاعدةquot; الإرهابي. وقد ساعد تداخل بعض المجتمعات الآسيوية اثنياً أو ثقافياً،

ووعورة الحدود البرية المشتركة أو طول الحدود البحرية، وتراخي الإجراءات الأمنية عند المعابر الفاصلة، وفساد بعض الأجهزة الأمنية أو ضعف كفاءتها

وقلة إمكانياتها، وتقدم فنون الاحتيال وتزوير وثائق السفر، على انتقال الإرهابيين من بلد آسيوي إلى آخر هرباً من الملاحقة أو بحثاً عن المأوى الآمن أو طلباً للتدريب والخبرات القتالية. ولعل أوضح مثال على هذا هو التعاون القائم ما بين الجماعات الأصولية الإندونيسية والحركات الانفصالية الإسلامية في جنوب الفلبين ونظيراتها في جنوب تايلاند المسلم وبعض الولايات الماليزية،

وما ثبت من تعاون واسع ما بين الجماعات المتشددة في كل من بنغلاديش

وباكستان وكشمير وأفغانستان وبعض دول آسيا الوسطى، وما أدت إليه التحريات من اعتقال بعض المطلوبين الإندونيسيين أو الماليزيين مثلاً في دول قريبة مثل سنغافورة أو تايلاند أو حتى كمبوديا.

لهذه الأسباب مجتمعة تحركت دول آسيان قبل أكثر من عقدين من أجل التعاون والتنسيق ما بين أجهزتها الأمنية والاستخباراتية، مستلهمة في ذلك بعضا من دروس حقبتي الستينيات والسبعينيات حينما كانت تحارب الحركات quot;اليساريةquot; والشيوعية التي مثلت في حينه تهديداً أمنياً مشابهاً للتهديد الأصولي الراهن، وإن لم يكن في حجم وشكل الأخير. وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وتداعياتها المتمثلة في الحرب الدولية على الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة لتعزز هذا المنحى وتعمقه وتؤطره في عدد من الاتفاقيات. غير أن ما لوحظ من تجربة السنوات الخمس الماضية هو تباين الحماس من بلد إلى آخر بحسب ظروف وإمكانيات كل دولة، ونوعية قراءتها للتهديدات الإرهابية، ودرجة استهدافها من قبل الإرهابيين.

فهي لئن أجمعت في كل القمم والمؤتمرات الوزارية السابقة للمنظومة على ضرورة القيام بعمل فعال فردي أو ثنائي أو جماعي للتصدي للإرهاب ورموزه وتنظيماته وأهدافه، فإن ما قامت به من إجراءات عملية ظل بصفة عامة ناقصاً، وإن ساهم في القبض على بعض كبار الإرهابيين المطلوبين أو إحباط عدد من المخططات الإرهابية. حيث بدا التعاون متذبذباً أو غير شامل أو مقتصراً على مجموعة دول دون سواها، بل تبين في بعض الحالات أن الانضمام إلى اتفاقية ضد الإرهاب كان فقط مجرد وسيلة للهروب من الانتقادات الدولية. ويكفينا على هذا الصعيد الإشارة إلى إن المعاهدة التي اقترحتها الفلبين في عام 2002 للقيام بجهد مشترك في تعقب الإرهابيين وتبادل قوائم السفر وإقامة خط هاتفي ساخن لتبادل المعلومات وتعزيز الإجراءات الأمنية على الحدود المشتركة، لم تلحق بها سوى ماليزيا وإندونيسيا أولاً ثم تايلاند وكمبوديا في وقت متأخر. وعلى حين وقعت منظمة quot;آسيانquot; اتفاقية جماعية للتعاون ضد الإرهاب مع الولايات المتحدة بعد إحداث 11 سبتمبر 2001 وأخرى مع الصين حول نفس الموضوع، فإن دولاً في المنظمة راحت تتعاون فرادى وعلى مستويات متباينة مع واشنطن من جهة وأستراليا من جهة أخرى، فيما بقي التعاون مع الصين شكلياً وغير مؤثر.

بل حتى على صعيد الاتفاقيات الثنائية مع هذه القوى الخارجية، اختلفت درجة حرارة التعاون من دولة إلى أخرى بحسب الظروف السياسية الداخلية لكل منها. فالفلبين مثلاً كانت الأكثر حماساً والأوسع تعاوناً مع الأميركيين في حربهم على الإرهاب إلى حد سماحها للقوات الأمريكية بالمشاركة ميدانياً في تعقب الإرهابيين في جنوب البلاد، بينما كانت اندونيسيا الأكثر تردداً في التعاون والأقوى اعتراضاً على بعض المقترحات والإجراءات الأميركية أو الأسترالية. ومن الواضح أن أهم العقبات التي حالت طويلاً دون قيام دول منظومة quot;آسيانquot; بجهد جماعي شامل و مؤطر بمعاهدة ملزمة هو تحسس بعضها من احتمالات خرق سيادتها أو التدخل في شؤونها الداخلية بحجة العمل الجماعي ضد الإرهاب، خاصة وأن مبدأ عدم التدخل هو احد أهم المبادىء التي استند عليها ميثاق المنظمة منذ تأسيسها في عام 1967.

ومن هنا، فإن المعاهدة التي ينتظر أن توقع في قمة quot;آسيانquot; السنوية القادمة المقرر عقدها في مدينة quot;سيبوquot;الفلبينية في مطلع العام الجديد، من بعد أن تأجل انعقادها في موعدها الأصلي في منتصف ديسمبر بسبب سوء الأحوال الجوية

(في رواية أخرى بسبب سوء الأحوال الأمنية في الفلبين) تشكل نقلة نوعية هامة في حرب دول جنوب شرق آسيا ضد الإرهاب، بل تمثل تتويجاً لكل الجهود والاجتماعات السابقة، ودمجاً لكل ما انبثق سابقاً من اتفاقيات

وتفاهمات أمنية. فهي أول معاهدة جماعية ملزمة لأطرافها العشرة وغير قابلة للتحفظات، وهي تصلح كإطار قانوني لتبادل الإرهابيين أو المشتبه بهم في ارتكاب الأعمال الإرهابية أو دعمها أو تسهيل وقوعها، وأخيراً فهي متناغمة في بنودها مع المعاهدات والقرارات الدولية الخاصة بالقضاء على الأنشطة المخلة بالأمن والاستقرار العالميين.

في التفاصيل، تتضمن المعاهدة المقترحة بنوداً حول إجراء التحريات المشتركة لتحديد المنظمات والجماعات الإرهابية ورموزها وأماكن تجمعها وتدريبها

ومصادر تمويلها والمتعاونين معها، والتعاون في تجفيف المنابع المالية للإرهابيين عبر قيود جماعية أشد على الحسابات المصرفية والتحويلات المالية والتبرعات المالية والعينية من الداخل والخارج، واعتراض السفن والناقلات المشتبه بها داخل المياه الإقليمية عن طريق تسيير الدوريات المشتركة، وتبادل المعلومات الأمنية والاستخباراتية، وإنشاء قاعدة بيانات مشتركة، وإعادة تأهيل الإرهابيين التائبين أو المغرر بهم، والتعاون القضائي في إجراءات المحاكمة وتنفيذ الأحكام وتسليم المجرمين، إضافة إلى استصدار ما يلزم من تشريعات وضوابط داخلية لتقنين وتسهيل كل ما سبق ما سبق ذكره وإلغاء كل ما يتعارض معه من قوانين.

والمؤمل الآن ألا تبرز في اللحظة الأخيرة ما يعيد العملية برمتها إلى المربع الأول، بمعنى تمسك دولة أو أكثر من أعضاء quot;آسيانquot; ببعض تحفظاتها القديمة أوسعيها إلى استثناءات معينة تحت حجج لا تصمد كثيراً أمام غول الإرهاب المهدد لكل إنجازات جنوب شرق آسيا النهضوية.