ليلى نقولا الرحباني


أنا ممن عاشوا تجربة الحرب في لبنان، كنت أقطن في ما كان يعرف بـquot;المنطقة الشرقيةquot; وأستمع الى إذاعاتها ووسائلها الاعلامية، وأشعر بهواجس أهلها، مما ولّد لدي شعور بالخوف من الآخر، الآخر الذي يسكن في تلك المناطق المسماة quot;الغربيةquot;، وبالأخص من ذلك الآخر المختلف طائفياً.
ثم انتهت الحرب وسكت المدفع، ودخلنا في مرحلة quot;السلم المفترضquot;، ففُتحت المناطق وأزيلت المتاريس، لكن الخوف لم يزُل... ذهبت خطوط التماس مادياً، لكنها ارتفعت في نفوسنا أكثر فأكثر، بسبب التهميش والاقصاء الذي عانى منه المسيحيون طوال فترة الوصاية السورية، وصار الخوف من الآخر يزداد، وشعرنا كأن هناك خطة منهجية لتهجيرنا من الوطن، بعد أن عوملنا كأهل ذمة يختار الآخرون لنا ممثلينا في البرلمان والوزارات.

أما اليوم فتسري شائعات كثيرة تريد إعادتنا الى حيث كنا، الى متاريس الخوف، وخطوط التماس الطائفية، مرتكزة على استمرار التهميش المبرمج ضدنا، وخاصة أننا لم نستطع أن نختار ممثلينا في كل المناطق بسبب الاجحاف الذي لحق بنا في قانون الانتخابات الاخير. لكن quot;اعلانات الخوفquot; هذه توجه أصابع الاتهام الى quot;حزب اللهquot; بما يملكه من سلاح وما يقال انه quot;يريد إقامة دولة اسلامية في لبنانquot;. لكني الآن، لم أعد ذلك quot;الكائنquot; الذي تسيّره الشائعات الطائفية واعلانات quot;الخوف على المصيرquot;، فبعدما قمت برصد مواقف quot;حزب اللهquot; المعلنة وسلوكه السياسي ومدى تطابقه مع ما يعلنه، أستطيع ان اجزم بأنني لست خائفة من quot;حزب اللهquot;. ما الذي يخيفنا كلبنانيين عموماً ومسيحيين خصوصاً من quot;حزب اللهquot;؟

أولاً: في موضوع السلاح، أثبتت الاحداث الأخيرة أن quot;حزب اللهquot; لا يحتكر وحده حمل السلاح على الاراضي اللبنانية، بل كثر ممن يطالبون بنزع سلاحه يملكون أسلحة أيضاً. هذا في الشكل، اما في المضمون، فقد تبين أن الحزب غير مستعد لتوجيه هذا السلاح الى الداخل والدخول في حرب أهلية مهما كان الثمن، وقد ظهر ذلك جلياً من خلال ضبط النفس الذي مارسه بعد كل ما حصل في الآونة الأخيرة وسقوط ضحايا من شباب المعارضة.

ثانياً: في موضوع إقامة الدولة الاسلامية، أكد قياديو quot;حزب اللهquot; وفقهاؤه مراراً بكلام واضح وصريح أنه من وجهة نظر الحزب وخلفيته العقائدية quot;حتى لو لم يكن هناك مسيحيون في لبنان ليس هناك إمكانية لقيام جمهورية إسلامية، وهذا الأمر محسوم لديهم عقائدياًquot;. فهم يؤمنون بنظرية quot;ولاية الفقيهquot; التي تقول: quot;لا يمكن إقامة حكم إسلامي إلا برضى الناس، أي انه على المستوى العملي ووفق نظرية ولاية الفقيه لا يمكن إقامة حكم الله أو بمعنى آخر حكومة إسلامية إلا إذا كانت أكثرية الناس تقبل بها وتصوّت لها، بالتالي هذا الأمر محسوم، حتى لو لم يكن هناك مسيحيون ولا حتى سنّة، يمكن أن تطرح المشكلة بين الشيعة أنفسهم، لذا لا يمكن إقامة الدولة الاسلامية في لبنانquot;.

ويؤكد الفقهاء أيضاً quot;أنه عندما نريد تأسيس حكومة في لبنان يجب أن نسحب منها العنوان ولا حاجة لوضع quot;حكومة إسلاميةquot; أو quot;حكومة مسيحيةquot; فلنضع حكومة لبنانية يتفق عليها العقلاء الذين يحرصون على مجموعة القيم التي لها علاقة بالحرية والعدالة والمواطنية والتعددية وقبول الآخر والانفتاح على الناس والحفاظ على كرامتهمquot;.
ثالثاً: توقيع وثيقة التفاهم مع quot;التيار الوطني الحرquot;، وما نصّت عليه من عبارات quot;تغليب المصلحة الوطنية على أي مصلحة أخرىquot; التي وردت في البند الاول، وquot;تحقيق المجتمع المدنيquot; التي وردت في البند الثالث، بالاضافة الى البند المتعلق بالعلاقات اللبنانية - السورية الذي جاء فيه quot;رفض العودة الى أي شكل من أشكال الوصاية الخارجيةquot;، وquot;ترسيم الحدود بين البلدين وإقامة علاقات ديبلوماسيةquot;... هذا بالاضافة الى البند الثاني الذي يؤكد ان الحزب مصرّ على التمسك بالنظام السياسي اللبناني الذي تستند ديموقراطيته إلى قاعدة التوافق.

إن تأكيد quot;حزب اللهquot; في وثيقة التفاهم على اعتبار النظام السياسي اللبناني نظاماً ديموقراطياً توافقياً بالاستناد إلى قاعدة العيش المشترك التي نصَّت عليها مقدمة الدستور، يعتبر تحولاً عميقاً في إدراك quot;حزب اللهquot; لمقتضيات الاجماع السياسي الوطني وكيفية التعاطي معه، وفهمه للأهمية القصوى التي يمثلها الاستقرار الداخلي من خلال طمأنة الطوائف.

رابعاً: في مفهوم quot;الدولة ضمن الدولةquot;:شكَّل دخول حزب الله إلى الحكومة اللبنانية، بعيد الانسحاب العسكري السوري من لبنان تطوراً نوعياً في مساره السياسي. فالحزب كان قد استنكف مراراً عن المشاركة في التشكيلات الوزارية رغم تأثيره الواضح على تكوين السلطة آنذاك وعلى التوازنات السياسية اللبنانية. فمنذ أيار عام 2000، تاريخ الانسحاب الإسرائيلي، لا يمكن تصوّر أنه كان من الممكن تشكيل أي حكومة لبنانية لا تأخذ في الاعتبار تأثير الحزب على تشكيلتها وتوجهاتها السياسية، لا سيما في ما يتعلق منها بالسياسة الخارجية والخيارات الإستراتيجية التي تتصل بالصراع مع إسرائيل، ذلك أن المقاومة امتلكت ثقلاً معنوياً لا يمكن أحداً أن يتجاهله.

إذاً، إن حالة quot;حزب اللهquot; قبل اشتراكه في الحكومة يمكن اعتبارها سلطة من غير سلطة، قادرة على أن تؤدي دوراً حاسماً في مجالها الذي يتصل بالصراع والخيارات الإستراتيجية. أما في المجالات الأخرى التي تتصل بالإدارة والمؤسسات والوظائف، فقد كان الحزب خارج أية فاعلية تذكر، بل احتكرت هذا الامر الاطراف الاخرى التي كانت على تنسيق تام مع السوريين.

من هنا يمكننا القول أن دخول quot;حزب اللهquot; في السلطة واشتراكه في إدارة الدولة ينطوي على إعادة اعتبار لموقع الدولة في فكره السياسي أو على الاقل تكريس للمصالحة مع الدولة.

خامساً: مهما اختلفنا مع السيد حسن نصرالله او اتفقنا معه، فلا يمكن أحداً أن يدّعي ان هذا الرجل quot;غير صادقquot;، انطلاقاً من هنا يمكننا الاستناد في quot;عدم الخوفquot; الى ما قاله في خطبه بعد الانتصار على اسرائيل:quot;نصرنا ليس انتصار حزب، ليس انتصار طائفة، هو انتصار لبنان الحقيقي وشعب لبنان الحقيقي وكل حر في هذا العالم. لا تحوّلوا الانتصار التاريخي الكبير، لا تسجنوه في علب حزبية أو مذهبية أو طائفية quot;...quot;لا نريد أن نحتفظ بالسلاح إلى أبد الآبدين، وأؤكد أن هذا السلاح ليس للداخل ولن يستخدم للداخل، هذا ليس سلاحا شيعياً هذا سلاح لبنانيquot;... quot; ان من ساعدونا ووقفوا الى جانب المقاومة لهم دَين في أعناقنا الى يوم القيامةquot;.

في الحقيقة، لا أخافquot; حزب اللهquot;، ولا أي آخر مختلف عني ثقافياً وحضارياً، علّ هذا الشعور ينسحب على جميع اللبنانيين! لقد تمرسّنا كلبنانيين على رؤية الآخر، أي آخر، من منظار الدفاع عن النفس والخوف من الإلغاء، وذلك بسبب ما حفلت به الذاكرة الفردية والجماعية من جراح ومآس وعصبيات طائفية، لكن أكثر ما نحتاج اليه اليوم هو تطوير ثقافة سياسية جديدة قوامها حق الاختلاف، وحرية التعبير، والحوار، والأهم السلام، فالسلام ليس مجرد غياب العنف أو الحرب، بل هو نتيجة طبيعية لاحترام حقوق الانسان، وفي طليعتها العدالة والكرامة الانسانية وحق الآخر في الوجود.