خليل أحمد خليل

كان بعض اللبنانيين يظن أن باستطاعة لبنان ldquo;همrdquo; العيش من دون العالم العربي، مراهناً على الغرب ومدمراته. ورأى بعضهم الآخر أن من هذا الغرب لا يأتي شيء يسر القلب، فراهنوا على العالم العربي الذي يعطي معنى سياسياً للبنان. مشكلة لبنان الراهنة ليست فقط في كونه طيراً بجناحين يرفرف كل منهما في اتجاه معاكس للآخر، بل في أنه طيرٌ ذبيح يموت في مكانٍ ويحيا في مكانٍ آخر في آن واحد. هذه المفارقة المكانية عكست تداعياتها على بلد رُكبت له دولة بخطأ سياسي يفوق أخطاء تراكيبه البسيكوسوسيولوجية، ويتناقض مع تحولات العالم العربي وتبدل ديكورات العالم الغربي. فإذا تضامن حكام العرب حول لبنان نعمت دولته باستقرار عابر، وإذا تنافروا وتعادوا اضطرب حبل الأمن في لبنان وتغالب أمراء طوائفه شاهرين عليه كل أسلحتهم، من المكبوت السياسي الى المخزون العسكري، واضعين الدولة ودستورها وقوانينها ومؤسساتها جانباً، ليحتكموا من حين لآخر الى اختبار القوة. وفي كل اختبار قوة يدفع البلد فواتير دمٍ ومالٍ وعمران؛ وتكون الفاتورة الكبرى من نصيب دولته المهمشة بعد كل دورة عنف، من داخله أو من خارجه، أو الاثنين معاً.

بانتظار حدث ما عنف أو حرب، صغير أو كبير، ينأى مركز الدولة عن أطره الاجتماعية، وتنزاح سياسة البلد عن حاجاته وضروراته ورغباته الوطنية. ويدعي كل فريق انقسامي وتنازعي أنه ذاهب الى نصرٍ سياسي؛ وأكثر من ذلك يتوهم أنه يراكم الانتصارات في جانبه، متفوقاً على فريق آخر يدعي بدوره أنه الأكثر انتصاراً، فيما حالة المعيشة أو الكهرباء لا تشي بغير التخلف والانكسار الذاتي. هذه الانتظارية السياسية جعلت اللبنانيين ضحايا رهانات مضللة، يزينها خبراء في تدجين الناس المجعولين ldquo;طوائف طوائف، وكل طائفة من الثانية خائفةrdquo;. هذا هو الإثم السياسي الأكبر الذي ارتكبه مراراً سياسيون مكبوتون لا يجدون تفريجاً لرغباتهم في التغلب على الآخر سوى عودة الطائفي، وكأن صناديق الاقتراع ومؤسسات الدولة هي للزينة فقط. وها قد عاد المكبوت الطائفي السياسي بقوة، وبكل مخزوناته العنفية الى لبنان، وباتت إيالات العساكر لولا الجيش جاهزة لإطلاق شرارات العنف، الحدث الكبير الذي يخشاه الجميع، وبلا وعي يصفقون لقدومه: ldquo;لبيك يا ...rdquo; وrdquo;بالروح بالدم نفديك ...rdquo;. لم يخطئ أحد من دُعاة العنف الطائفي، العنصري بطبيعته، في نُطق اسم لبنان في فراغ النقاط الثلاث التي نعرف ما يوضع فيها يومياً. فيما المدمرة كول وأخواتها قادمة للانتقام لما أصابها في بحر اليمن، وفيما ldquo;اسرائيلrdquo; فينوغراد تستعد لعدوان وشيك وكبير على لبنان، بعد بروفة أمطار غزة الساخنة.

المشكلة الآن ليست في كون دولة لبنان بلا رئيس وحسب، بل أيضاً وخصوصاً في كونه بلداً بلا رأس، بلا جسم، بلا روح. أما الخطأ السياسي الراهن فهو أن اللاعبين المحليين يخالون لبنان الملعوب به كأنه ldquo;قطة بسبع أرواحrdquo; أي أنه يملك القدرة على الانتظار والصبر والتحمل والموت بلا حدود؛ وكأن أحداً منهم لم ير في حياته سيارة تدوس قطة وتقتلها في الشارع. الشارع نفسه الذي تُدفع اليه جماهير قلِقة، مهتاجة ومهيجة ضد بعضها بعضاً، ضد ذاتها. فمن زواريب بيروت المحتقنة والمدججة بمكاتب مسلحة بالحقد وبالسلاح الطائفي، الى إيالات المنتصرين على طوائفهم بفصلها عن الطوائف الأخرى، وخصوصاً عن الدولة التي لم تعد لها طائفة سياسية مشتركة تحميها وتقيها من شرور الأحداث القائمة والقادمة.

هكذا تجري مأساة شعب لبنان الى هاوية لا مستقر لها، طالما أن العالم العربي فقد قراره السياسي منذ حرب ،1967 ومعه فقد مركزيته السياسية الرمزية، واحتفظ لنفسه إما بأحادية قطبية، وإما بمحورية تناقضية كتفاهم الأنظمة في مصر والسعودية وسوريا وإما أخيراً بتبعية علنية أو خفية للغرب الأمريكي، الذي سهل كثيراً تغلغل ldquo;المقداحrdquo; ldquo;الاسرائيليrdquo; في تفاصيل العالم العربي، بدءاً من لبنان. وبدلاً من توحد اللبنانيين حول إغلاق البوابة ldquo;الإسرائيليةrdquo; ذهب بعضهم الى الاستنجاد بالسياسات الامريكية، بمخابراتها ومدمراتها وشركاتها، كاشفين دولة هشة على كل مخاطر حروب الدمار الشامل، ما جعل أزمة لبنان الراهنة انعكاساً مرضياً لسياسات عربية امريكية ldquo;اسرائيليةrdquo; مُلتبسة، تفوق بصواعقها المحلية امكانات الدستور اللبناني الذي يحمل الحل ونقيضه معاً. فكيف يقوى لبنان هذا بوضعه الراهن، على تحمل العواقب التدميرية الشاملة التي تحملها الصواعق الأمريكية ldquo;الاسرائيليةrdquo;؟

عندما توضع السياسة في خانة ldquo;اللاحل هو الحلrdquo; يتخذ الصراع في السلطة على السلطة شكل التدمير الذاتي لنواة المركز الوطني اللبناني. وكلما ارتضى سياسيو لبنان أن يجعلوه جبهة مشاركة في صراعات القوى الاقليمية والدولية وحروبها السرية والدموية، ينبغي عليهم التفكر لا في عدد جمهورهم وأسلحتهم بل في عدد الضحايا التي ستسقط في هذا الثلث اللبناني الباقي في البلد على كرهٍ ومضض. عليهم أن يعيدوا النظر في إثمهم السياسي وفي وهم تعاديهم الغبي، وفي أضاليل انتصاراتهم التي لو أنصفوا بعضهم بعضاً ونظروا الى واقع جماعاتهم أو إيالاتهم المُفصلة على مقاس نرجسياتهم السياسية، لاكتشفوا مدى فشلهم وانكساراتهم على مدار تجاربهم السلطوية الخائبة.

لقد رُفعت الحالة اللبنانية الى مجلس أمن، ومحكمة ذات طابع دولي، والى جامعة الدول العربية، وقريباً الى القمة العربية. ولو رُفعت هذه الحال الى صحوة وطنية، والى ديمقراطية دستورية وأخلاقية سياسية وخصومة شريفة، لما صار في الإمكان استعمال لبنان ورقة تفاوض على طاولات قمة عربية ولا في مجلس أمن دولي. خرابُ لبنان ليس في خارجه فقط. فمن داخله جاءته رياح فتنة تنشر عليه تلوثات سياسية خاصة به. والمطلوب هو علاج الأوبئة وفي مقدمتها انفلونزا الطيور الطائفية، والسعي لأن يبقى لبنان دولة وطن وأمة، لا بلد دولة بساحتين، عربية وغربية، وكأن سكانه وسطاء بين المال والسلاح.

بعد فلسطين والصومال والعراق، يبدو أن هذا العالم العربي يُجاري مرض اللادولة في لبنان، التعبير السياسي عن تقسيمه السياسي الطائفي والمذهبي المسلح بايديولوجيا موت الوطن لإحياء وهم النصر بآخر كبير على آخر صغير. عالم عربي من دون لبنان؟ ربما.

هذا يتوقف الآن وقريباً على سلوك لبناني مزدوج: يصفقون لدعاة العنف الطائفي والاحتراب الداخلي، وفي الوقت نفسه يعانون من رعب الحروب التي خبروها طويلاً.

إن نرجسية الطوائف هي الآن في ذروتها على أرض لبنان الملغمة من عدة جهات. وعلى إيقاع قمة عربية تختصر انقسامات العالم العربي، ليست المشكلة في ذهاب أو عدم ذهاب لبنان الى قمة دمشق، بل المشكلة هي في خروج ساسته من عقم تخاطبهم اللامعقول، وإخراج الدولة من أزمات الخارج، والانتصار على أزمة الذات بخفض سقف نرجسيات سلاطينه الجدد والتفكر أكثر بمجتمع تتحكم المعتقدات بواقعه، ولكنها لا تقدم حلاً لشتاته السياسي الاجتماعي.