غازي العريضي

في لبنان احتقان بلغ حدود الخطر، وقلق وسباق مع الزمن، وكأن البلد مقبل على انفجار أو معرض لانهيار... والكل ينتظر ساعة الصفر. نقاش في كل مكان حول هذا الموضوع. وشبه عجز عن فعل أي شيء، وكأن ثمة شيئاً ما يُحضّر ولا حول ولا قوة للبنانيين، ولا تأثير لهم في منع حصوله. الكل يستعدّ لهذا الاحتمال وكيفية التعاطي معه.

لم أشعر يوماً أن الأمل عند اللبنانيين ضعيف إلى الدرجة التي نعيشها اليوم. عشنا حروباً داخلية كثيرة، كانت كلفتها عالية من المآسي والخسائر والضحايا والقلق والخوف والهجرة والتهجير والأمراض والفقر والجوع والإهانة والإذلال. وعشنا حروباً مع إسرائيل كانت كلفتها عالية جداً أيضاً ورافقتها مآسي ومشاهد بشعة مؤلمة. ولكن في الحروب الثانية كان عزّ وفخرّ لأننا انتصرنا مرات عدة على عدونا رغم هول الحروب المتتالية معه. وفي الحروب الداخلية خرجنا منها، منتصرين على ذواتنا، أو هكذا أعتقدنا ndash; عندما ذهبنا إلى تسويات واتفاقات ووضعنا حداً للانهيار الكبير.

وحتى خلال الحروب الداخلية كان ثمة أمل ما، بإصلاح أو باتفاق أو بحلّ أو بعودة إلى التلاقي أو بتحقيق مكسب ما، وكانت الإرادة قوية.

اليوم الوضع مختلف تماماً، سباق مع الزمن في مواجهة احتمال تدهور أمني أو فوضى. لا يستفيد منها إلا إسرائيل، إذاً هي نوع من الانزلاق في مشروع يربح إسرائيل الحرب هذه المرة، عن قصد أو غير قصد هذه هي الحقيقة. والفوضى لا تخدم المقاومة، لأنها تذهب بها إلى الأزقة والزواريب وتلبسها لباساً غير لباسها. وهذه أبشع الآفات التي يمكن أن تصيب فريقاً سياسياً فكيف إذا كان الفريق الذي شكل العمود الفقري على مدى سنوات في قتال إسرائيل وتحقيق الإنجازات الكبرى في وجهها، والتي عجزت عن تحقيقها جيوش عربية وأنظمة قوية.

عنوان الانقسام والخوف: المحكمة الدولية الخاصة للتحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، ومتفرعاتها من قضية شهود الزور إلى دخول إسرائيل على شبكة الاتصالات الخلوية اللبنانية وزرعها شبكات تجسس وعملاء في الداخل اللبناني، وتقارير إعلامية متتالية تتحدث بالتفصيل عن الجريمة قبل أن يقول المحققون كلمتهم. والمعنيان الأساسيان بهذه الأمور هما بالدرجة الأولى : الرئيس سعد الحريري وحسن نصرالله. وحول هذا وذاك فريق يتعاطف ويؤيد ويدعم.

الرئيس الحريري وليّ الدم كما أسموه. ورئيس الحكومة اللبنانية وزعيم ورمز الطائفة السُنية الكريمة ويقود تحالفاً سياسياً عريضاً في البلاد. هو في مواجهة وضع صعب. فمن كل هذه المواقع يجب أن يترجم قوله أكثر من مرة: quot;لن يكون دم رفيق الحريري سبباً للفتنةquot;. قاله قبل أن يكون رئيساً للحكومة. وقاله بعد ذلك. ولحصول ذلك في مواجهة مخاطر الفتنة ndash; غير الممكن تفاديها في نظر بعض اللبنانيين وهذا مصدر خوفهم ndash; لا بد من قرار كبير. وهذا القرار صعب جداً جداً أياً يكن!

و نصرالله رمز للطائفة الشيعية الكريمة ويقود تحالفاً سياسياً عريضاً. يصعب عليه أن يقبل إتهاماً له أو لطائفته بأنهم اغتالوا الرئيس الشهيد رفيق الحريري وأن يكونوا quot;حملة الدمquot; في مواجهة quot;ولي الدمquot;. وكما هو معروف، وفي ظل الحديث عن الفتن المذهبية وخصوصاً الشيعية ndash; السنية منها، قد يعيدنا هذا الصراع ألفاً وأربعمائة عام إلى الوراء، فندخل في دوامة لا نعرف كيف ومتى نخرج منها هذا إذا ما خرجنا منها، وهنا مصدر القلق والخوف وضعف الأمل عند اللبنانيين وقول كثيرين منهم أيام الاحتلال الإسرائيلي كانت أرحم، لناحية أننا كنا نواجه عدونا التاريخي ونفخر بذلك.

وأيام الانقسام الداخلي كان كل واحد منا يعرف دوره وأهدافه وحدوده وكان ثمة ضوابط. اليوم لا حدود ولا ضوابط واللعبة أكبر من الجميع.

أدرك تماماً كل هذه المشاكل وعشتها على مدى سنوات وسنوات منذ أربعة عقود بشكل مباشر وعشتها من خلال التاريخ منذ عقود كثيرة من الزمن. ولست لأوافق القادة والناس الذين يستسلمون أو يقولون المسألة أكبر منا ولا نستطيع فعل شيء. لا. لقد علمتنا الحروب السابقة كيف نواجه وكيف نبقي التواصل بيننا قائماً، وكيف نذهب في النهاية إلى تسويات. المهم أن نكون مقتنعين بالتسوية. هنا أسجل للرئيس سعد الحريري قوله وتكراره: quot;لن تكون فتنة. مستعد لكل شيء لدرء الفتنة. ليكن هدوء وحوار ولتكن الكلمة الطيبة. وما دمت موجوداً مع الرئيس نبيه بري نصرالله فلن تكون فتنة...quot;.

ودور المرجعيات الأخرى في البلاد كبير وأساسي وعلى رأسها رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، والزعيم الوطني وليد جنبلاط. وأسجل ما يقال من بعض الجهات الأخرى: quot;نريد إبعاد الكأس المرة عن لبنان بأي ثمنquot;!

هذا أمر مهم. هذه نقطة تلاق وبداية. والكل تحت سقف الدولة. أي خروج عن منطق الدولة هو خروج إلى المجهول وانزلاق نحو فتنة لا ضوابط لها ولا مؤسسات تحمي اللبنانيين أو تكون جاهزة في محطة معينة لمواكبة التسوية.

من أجل ذلك ينبغي معرفة إدارة مواجهة الأزمة. البحث عن الحلول لا يكون بالتهديد والوعيد والتخوين والاتهام والشتيمة ومحاولات فرض القرارات بالقوة أو بالإكراه. البحث عن الحلول يكون بالحوار تحت مظلة عربية سعدنا بعودة تشكلها وهي المظلة السورية ndash; السعودية التي توهم البعض أنها سقطت، فإذا بهم يُفاجؤون بأنها لا تزال قوية. كما توهّموا بقطيعة بين الرئيس السوري والرئيس الحريري فوجدوا العكس تماماً.

وها هو كلام الرئيس الأسد إلى صحيفة quot;الحياةquot;، يضع حداً لكل التأويلات، وها هي مواقف الرئيس الحريري في جلسات الحكومة وتواصله مع القيادة السورية يدحضان تلك التوقعات والأوهام والشائعات والتسريبات من الذين لا يريدون علاقات طيبة بينه وبين سوريا، أو بين السعودية وسوريا، وهؤلاء موجودون في لبنان وخارجه في أكثر من مكان.

سعد الحريري يواجه مصاعب كثيرة، ويعيش أصعب امتحانات السياسة في مسيرة الرجال الذين فرض القدر عليهم أن يكونوا حيث لم يكونوا يتوقعون ذلك أو يريدون أو يتمنون.

أعانه الله. ساعدوه. بالاحتضان والمساعدة والاحترام وتأكيد مبدأ الشراكة تنطلق مسيرة البحث عن حلول والأمل لا يزال كبيراً بالوصول إلى نتائج.