عبد الحميد الأنصاري

يرفض بعض الكتاب والمتحدثين، وصف تعاملنا مع الآخر المختلف ديناً أو مذهباً أو عرقاً أو توجهاً سياسياً، بكلمة quot;التسامحquot;، لأن التسامح يعني التنازل عن الحق أو الغفران عن الذنب أو العفو عن الإساءة، فهو يحمل دلالة سيئة، ونموذجاً لهذا الفهم ما كتبه عبدالرحمن الراشد -الكاتب الإعلامي- في عموده اليومي عن المشكلة القبطية في مصر، يقول: الأقباط في مصر ليسوا أقلية، ثمانية ملايين رقم كبير، لا يمكن معاملته كأقلية، لا يجوز معاملتهم وفق مفهوم التسامح، فهذا من المفاهيم السيئة التي كثر تداولها اليوم بحسن نية، أحد المتحدثين من المسيحيين العرب في مؤتمر، وصف كلمة quot;تسامحquot; بالمهينة، هناك فرق واضح بين الحق والهدية، بين المساواة والتسامح، أنت تتسامح مع المخطئ وتمنح الغريب شيئاً من حقوقك، والقبطي في بلده ليس مخطئاً أو ناقصاً حتى يتم التسامح معه، بل مواطن مثله مثل المواطن المسلم.

والحقيقة أن مثل هذا الفهم السلبي لكلمة التسامح، فهم شائع في الساحة الإعلامية والثقافية، لكنه فهم يقوم على لبس أو سوء فهم مترسب من المفهوم التراثي لكلمة quot;التسامحquot;، وقد أصبح مهجوراً، تجاوزه العصر والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان وضرورات التعايش المشترك.

إذا رجعنا إلى قواميس اللغة، وجدنا كلمة quot;التسامحquot; تحمل معاني عديدة: التساهل واللين والتيسير والموافقة والجود والكرم وكذلك quot;العفوquot; وquot;الغفرانquot; وquot;التنازلquot;، لكن الاستخدام التراثي للتسامح ركز على المعاني الأخيرة، وهي العفو عن الخطأ والغفران عن الذنب والتنازل عن الحق، وهي المعاني الأكثر دوراناً في الكتب الفقهية -وصفاً- للتعامل مع أهل الذمة، تذكر هذه الكتب أن إبقاء المسلمين على حياة غير المسلمين وقبولهم لإقامة أهل الذمة في ديار الإسلام مع حمايتهم وحماية معابدهم مقابل دفعهم الجزية، ما هو إلا نوع من تنازل المسلمين وتسامحهم، لأن الأصل الفقهي -في هذه الكتب- عدم بقاء غير المسلم في ديار الإسلام إلا لمصلحة معتبرة يراها إمام المسلمين، وكون المسلمين تسامحوا مع أهل الذمة فذلك من منطلق الإنعام والمنَّة، كما أن التسامح عند علماء اللاهوت، يعني quot;الصفح عن مخالفة المرء لتعاليم الدينquot;، لكن التسامح بهذه المعاني التاريخية والدينية قد تم تجاوزه من المسلمين وغيرهم بقيام الدولة الوطنية ووضع الدساتير وإقرار حقوق المواطنة وتصديق كافة الدول العربية والإسلامية على مواثيق حقوق الإنسان. والاستخدام المعاصر لكلمة التسامح، والتي يكثر دورانها في المؤتمرات الحوارية وفي ساحة التداول الفكري والإعلامي لا يحمل مفاهيم العفو والغفران والتنازل أو الإنعام والمِنَّة، بل له دلالة واضحة ومحددة لدى الجميع وهي quot;احترام حقوق الآخرين وحرياتهمquot;، ولا علاقة له بالدلالات الأخرى والتي لا زالت مستخدمة لكن في سياقات مختلفة عن سياق وصف العلاقات بين أطياف وطوائف ومكونات المجتمع الواحد المحكوم بالدستور الوطني. quot;التسامحquot; في الاستخدام الحديث والدارج يعني: قبول الآخر على علاِّته، بما هو عليه من اختلاف في المعتقد والمشرب السياسي والاعتراف بحقه في الوجود والحرية والسعادة، ويهمنا تأكيد أن كلمة quot;التسامحquot; المستخدمة -حالياً- هي ترجمة لـquot;Tolerancequot; لا quot;Forgivenessquot;، التي تعني quot;الغفرانquot;، وقد عرَّف القاموس الفرنسي quot;لاروسquot; كلمة التسامح بأنها: احترام حرية الآخر وطرق تفكيره وسلوكه وآرائه السياسية والدينية. وهذا ما اعتمدته منظمة quot;اليونسكوquot; في إعلان quot;المبادئ حول التسامحquot;، باريس 16 نوفمبر 1995 -اليوم العالمي للتسامح- وجاء فيه أن التسامح هو احترام حقوق وحريات الآخرين، وتقدير التنوع الثقافي، وقبول مختلف أنماط وأساليب التعبير لدى الجنس البشري، والانفتاح على أفكار الآخرين وفلسفاتهم والإفادة منها، والاعتراف بأنه ليس هناك فرد أو ثقافة أو وطن أو ديانة تحتكر المعرفة والحقيقة. التسامح موقف إيجابي من الآخر دون استعلاء أو تكبر، وهو ليس مجرد واجب أخلاقي بل هو -أيضاً- مطلب سياسي وقانوني مثلما هو قوة تساعد على تحقيق السلام وإحلاله محل ثقافة الحرب، أما اللاتسامح فهو التوق الوحشي الذي يدفع إلى الكراهية وملاحقة من هم على خطأ أو على ضلال لدرجة التضحية بالذات كما يقول عاطف علبي. والتسامح بهذا المفهوم يمثل اليوم جوهر حقوق الإنسان كامتداد وتطوير لما نادى به جون لوك (1632-1706) في quot;رسالة التسامحquot;. لكننا نحن المسلمين نجد أن أساس وقاعدة التسامح لدينا وفي ديننا قوله تعالى: quot;لا إكراه في الدينquot;، وقوله عز وجل في إقرار التعددية: quot;ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنينquot;، وفي قوله عز وجل: quot;ولذلك خلقهمquot;، أي من أجل الاختلاف المؤدي للتنافس الثري والخلاّق والذي تتم به عمارة الأرض وازدهارها.

ويبقى تساؤل قلق: كيف يمكن ترسيخ quot;ثقافة التسامحquot; في التربة المجتمعية وإشاعاتها سلوكاً وتعاملاً بين الأطياف المجتمعية؟ ذلك يتطلب تفعيلاً حقيقياً للمفاصل الرئيسية المسؤولة عن صياغة الثقافة المجتمعية: المفصل التربوي، في تسامح الأبوين مع بعضهما، والمفصل التعليمي بتعزيز التسامح في البيئة التعليمية، والمفصل الديني بأنسنة الخطاب الديني، والمفصل الإعلامي بتعزيز المشترك الثقافي بين الشعوب، والمفصل التشريعي بتخليص التشريعات من شوائب التمييز والتفرقة.

وأخيراً، إذا أردنا لشجرة التسامح أن تثمر، علينا أن نتعلم كيف نختلف دون أن نتخاصم أو يجرّح بعضنا بعضاً.