أحمد عياش

يحتاج المرء هذه الايام الى الكثير من التواضع عندما يراقب ما يدور حوله في هذا الوطن. فالاغراءات كثيرة لاطلاق الاحكام، لكن من دون الاحاطة بكل حقائق المشهد العام. لذا فمن الافضل ان يعتمد على الذاكرة مستلهماً اياها والتي تؤرخ للاعوام العاصفة التي هبت على لبنان منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في 14 شباط 2005 ولا تزال.
تشاء الاقدار ان يأخذ اليوم الزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط مكان الرئيس رفيق الحريري في اللقاء الشهير الذي جمعهما في 26 آب 2004. فالحريري العائد من اللقاء مع الرئيس السوري بشار الاسد صبيحة ذلك اليوم روى للمقربين منه كيف خاطبه الاسد عندما هدده في حال لم يوافق على التمديد لولاية الرئيس اميل لحود قائلا: quot;سيكسر البلد فوق رؤوسنا ويحرق بيروتquot;. وليل ذلك اليوم اجتمع الحريري مع جنبلاط في منزل الاخير في كليمنصو وسأله: quot;ماذا نفعل؟quot; فأجاب جنبلاط كما دوّن الزميل جورج بكاسيني في كتابه quot;الطريق الى الاستقلالquot; قائلا: quot;هؤلاء خطرون يا دولة الرئيس، يقتلونك. صوّت مع التمديد وتجنّب شرّهم، فالمعركة معهم طويلةquot;. هناك الكثير من التفاصيل التي دونت او تحدث عنها المعنيون بالصوت والصورة. لكن في خلاصة الامور ان الحريري صوّت مع التمديد، ثم قتل.
هل من شك في ان جنبلاط اليوم في الموقع نفسه؟ لم يعلن حتى الآن ماذا قال الامين العام لـquot;حزب اللهquot; السيد حسن نصرالله في لقائه الاخير مع جنبلاط في شأن معركة الحزب لاسقاط الرئيس سعد الحريري في استشارات التكليف غداً او ما قاله الرئيس الاسد في هذا الصدد عندما اجتمع امس مع جنبلاط. لكن لو تطلع الاخير الى السماء ووجه الى رفيق الحريري في عليائه السؤال: quot;ماذا نفعل؟quot; لكان الجواب المرجح: quot;لقد نصحتني فمدّدت للحود وقتلت. فلتأخذ العبرة مما حل بي. ليحمك الله ويحم ولدي سعد ويحم لبنانquot;.
للتذكير ايضاً فإن الخطر الذي يتهدد لبنان ليس فقط المحكمة الدولية التي تستعد لاصدار قرارها الاتهامي بل المشروع الذي قتل رفيق الحريري ورفاقه وسائر شهداء ثورة الاستقلال. لقد ادرك اصحاب المشروع ان الموافقة على التمديد للحود لن تعوق الحريري عن احراز انتصار انتخابي مدوٍ في عام 2005 فسارعوا الى اغتياله لعلهم يزيلون هذه العقبة الكأداء. لكن استشهاده حوّل الانتصار النيابي الذي كان سيحرزه الى نجله وسائر قوى الاستقلال واخرج قوات النظام السوري من لبنان بعدما عجزت كل القرارات الدولية والعربية عن ذلك. وما اشبه اليوم بالبارحة. فعشية صدور القرار الاتهامي تتكرر المحاولة لالغاء من يمثل قضية العدالة في لبنان اي الرئيس سعد الحريري لعل ذلك يكون وسيلة لاستمرار المشروع الاصلي الذي اودى بوالده وسائر الشهداء. لكن هذه المرة يتوسلون وسائط ابرزها موافقة جنبلاط على توفير التغطية السياسية.
قبل ان يدوّن التاريخ في الذاكرة ماذا قرر جنبلاط، يتأرجح لبنان الآن مجدداً على حبل قد يؤدي السقوط من فوقه إما الى هاوية الحرب الاهلية او الى هاوية تحويله غزة ثانية. لكن تجربة ثورة الارز تلوح مجدداً لتكون شبكة امان كما فعلت في ظرف مشابه عندما وقع زلزال الاغتيال عام 2005. لقد خرج اللبنانيون كما لم يخرجوا في تاريخهم في 14 آذار ليؤكدوا خيار السلم الاهلي في مواجهة الارهاب والفتنة والاستتباع ونجحوا ليعطوا مثلاً عظيماً امام سائر شعوب العالم. أما الذين تجتاحهم الوساوس او يحلمون بالدسائس فالجواب سيكون عند الشاعر العربي ابو فراس الحمداني الذي يمكن استعادة بيته الشهير معدّلاً: quot;أراك عصيّ الفهم شيمتك الغدرquot;. فعدم الفهم هو اليوم عند من يستهبلون اكثرية اللبنانيين. وأما الغدر فهو من شيمة من نفذ الاغتيالات وأخذ لبنان الى الحروب والفتن ولا يزال يتطلع الى النجاة بفعلته مجدداً.