محمد سلمان العبودي

نشعر بالحزن وخيبة الأمل أن تمر الكارثة بهذه السرعة. فنحن من عاداتنا حب الإثارة. فحياة الإنسان العربي بدون الأحداث الجسام تصبح مملة ورتيبة. ولا يشفي غليله غير كارثة أعظم منها. وبمجرد ما أن تنتهي حتى يبدأ في البحث خلف السطور عن أدق الأشياء التي لا ترى بالعين المجردة للحديث عنها في اليوم التالي، وتتحول أكبر قضايانا شيئا فشيئا إلى مجرد حكايات (قالت الجدة)، وتدخل فيها الأساطير والخيالات والإضافات.

وبعد مرور عشرة أيام فقط على أحداث تونس، والدماء لم تجف بعد من على شوارعها، تحول الحديث فجأة عن الاختلاف حول تسميتها: ثورة الياسمين أو ثورة الحرير؟ أما أنا فأفضل تسميتها بثورة النار. لأنها أول ثورة في تاريخ العالم تتفجر من اشتعال النار وتقلب نظام حكم بمن عليه في غضون شهر. فلم نسمع قط في تاريخ البشرية إن اندلعت ثورة من مجرد أن أحرق شخص نفسه أمام مجلس الشعب.

بعد التسمية دارت الشائعات حول كيفية هروب الرئيس المخلوع مع عائلته. بالطائرة أم من خلال نفق؟ مع أهله أم مع وزرائه؟ مع ساعة يده التي لبسها آخر مرة أم مع كل ثرواته التي جمعها طيلة ‬23 عاما قضاها رئيسا بالإكراه لدولة ديمقراطية ؟ وإن كانت كمية الذهب التي حملتها زوجته تزن طن ونصف الطن أو طن وربع الطن؟ ثم ذهب البعض إلى وصف فئة الذهب ومن أي قيراط كان وكم تقدر قيمته الإجمالية وفق سعر السوق اليوم؟

ثم انشغل الشعب العربي بقضية دينية لا مفر منها: من حيث جواز أو عدم جواز أن يحرق المسلم نفسه في سبيل تحرير شعبه؟ وهل يعتبر هذا انتحار وبالتالي يدخل البوعزيزي النار عقابا على فعلته السوداء؟ أم يعتبر شهيدا ويدخل الجنة لأنه حرر شعبا ذاق طعم جهنم على مدى ربع قرن؟ ودخل على الخط الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في هذه المسألة الشائكة. ولم يعرف بعد ذلك كيف يخرج منها، حيث أن أي زلة لسان من طرفه قد تحسبه على النظام التونسي السابق ويتهم بالرجعية أو تجعله يحلل ما حرم الله.

هكذا نحن على امتداد تاريخنا الحديث. نحب كالأطفال كل ما هو غريب ومثير لمشاعرنا وعواطفنا وعقولنا ونبحث عن أصغر الأشياء الميكروسكوبية ولدينا متخصصون يعملون في الظل في إضافة البهارات المتنوعة من الأخبار الكاذبة والتفاصيل التي لم تحدث على الأخبار التي لم تحدث بعد. وننسى القضية الرئيسية الهامة التي تدور رحاها على أرض الواقع. وهذا ما يحدث بكل أسف اليوم فيما يتعلق بأحداث ثورة النار في تونس. تماما كما حدث مع سقوط النظام العراقي في بغداد.

وأغرب من ذلك أن الشعوب العربية تحب التقليد في كل شيء. وقد اكتشفنا هذه الظاهرة المرفوضة في تقليد برامج الغرب التلفزيونية من نشرات الأخبار إلى تلفزيون الواقع والستار أكاديمي وفي الغناء وفي الرقص. ويبدو أن قنواتنا الفضائية قد أثرت في عقلية النسخ العربية. فبمجرد ما أن نجحت تلك الظاهرة في تونس حتى حاول آخر تكرارها في الجزائر، ولم تنجح، ثم في مصر ولم تحرك المومياءات النائمة في متاحف القاهرة، وفي موريتانيا ولم تؤت أكلها. فنحن نقلد كل شيء، ولا نخترع شيئا. ولذلك لا ننجح في مشاريعنا المقلدة. إن ما يصلح في تونس قد لا يصلح في غيرها من العواصم.

الأمر الأغرب من الأغرب، هو العشوائية والفوضوية في أحداثنا الهامة. يا ترى، لو لم يفكر محمد العزيزي بإحراق نفسه، هل كان سيسقط النظام في تونس؟ بالتأكيد كلا. حيث لم يكن هناك أي تنظيم أو تنسيق أو خطة للإطاحة بزين العابدين بن علي، كما حدث مثلا في سقوط نظام الشاه في إيران.

أيا كان ما حدث وما لم يحدث. ما يهم الآن هو كيفية التعامل مع ما يحدث ومع الواقع الجديد. سقط النظام ورحل بن علي مع أسرته المتهمة باختلاسات تخجل منها النفس، وظلت بعض رموز النظام السابق متعلقة بحلم الاستمرار. ما هو القادم يا ترى؟

الشعب التونسي يجب أن يفهم بأن الفرصة التي واتته اليوم لن تتكرر من جديد حتى ولو أحرق ألف بو عزيزي نفسه. وأن عليه أن يقرر مصيره فورا وأن لا يصدق كل ما يقال له وما يعرض عليه من أوهام. وأن شرارة محمد بو عزيزي ما زالت مشتعلة. وما زال الحديد ساخنا ويجب ضربه قبل أن يبرد. وإلا ضاعت منه كل مكتسباته في سرعة البرق تماما كما غادر بن علي كرسي الحكم في لمح البصر.

لا بد من أن تجلس الأطراف المختلفة على طاولة واحدة. ولا بد من وضع نظام يتماشى مع المرحلة القادمة. يجب أن لا يقع الشعب التونسي في نفس مطب زين العابدين بن علي. وهذه واحدة من مساوئ شخصية الإنسان العربي: حب السلطة. لقد خسر الرئيس السابق كل شيء: السلطة، وأمواله، وقصوره وعلاقاته مع الغرب وخسر أقرب المقربين إليه. لكن أهم ما خسره: هو حب شعبه. ولن يكتب عنه التاريخ غير ذلك. فهل سيكرر من يأتي بعده ما كان يفعله من كان قبله؟

إن المرحلة المقبلة على الشعب التونسي تقع اليوم على مفترق طرق. وتقع غدا على مفترق طرق آخر. ويجب أن لا يهتم بما يكتب وما يقال في الصحف العربية. فهي أصبحت تهتم بالقشور والأقاويل والحكايات. والشعب التونسي يجب أن يقبل على فترة عمل وإنتاج.

الأمر الآخر، هو أن يعتمد الشعب التونسي على نفسه في كل شيء. إن الاعتماد على دعم وحماية الشعوب الغربية ومساندتها والانطواء تحت رايتها لا يأت بخير. وإننا قادرون على تسيير أمورنا دون الحاجة إلى مظلة فرنسية هنا وبريطانية من هناك. إن الدول الغربية تخلت في يوم ما عن الشاه كما تخلت منذ فترة عن تشاوتشكو ومن ثم عن صدام حسين واليوم جاء دور زين العابدين بن علي ورفضت استقباله. وسوف تتخلى عن غيره متى ما دارت الرياح في غير اتجاه مصالحها.