محمد حسن علوان

الجيل العربيّ الشاب هو جيل ما بعد الموجة الأولى من الثورات العربية التي مرت في الخمسينيات والستينيات الميلادية، فلم يشهد أيٌّ منهم منذ ولادته ثورة شعبية، باستثناء بعض انقلابات القصور والعسكر التي تمت على مستوى النخب السياسية

يبدو ـ هذه الأيام ـ أن الكتابة خارج ثنائية تونس ومصر تعدّ ضرباً من الشطط والتوحد. وليس مستغرباً أن تنال أحداث الدولتين كل هذا الاهتمام، فالعالم لم يشهد ثورةً مثل ثورة الياسمين منذ سقوط الديكتاتور اليوغوسلافي سلوبودان ميلوسيفتش عام 2000، والعالم يعلم المحورية الاستراتيجية التي تتمتع بها دولة كبرى كمصر فيحسب لتغيير السلطة فيها ألف حساب. وبالتالي فإن وقوع أحدهما بمعزل عن الآخر كافٍ ليسرق اهتمام المتابعين في العالم، ناهيك عن وقوعهما معاً في شهرٍ واحد، مما جعل عام 2011 يحمل طعم الستينيات الميلادية بامتياز. وقد نجد الكثير من القواسم الجغرافية والاقتصادية والسياسية المشتركة بين هذين الحدثين وما جعلهما يتتابعان في شهر واحد، ولكن برأيي أن ما جعلهما يجذبان اهتمام الشباب تحديداً، ويتمكنان من قلوبهم هو أنهما لو لم يحدثا.. لظلا بالنسبة لهم ضرباً من الخيال. فالجيل العربيّ الشاب هو جيل ما بعد الموجة الأولى من الثورات العربية التي مرت في الخمسينيات والستينيات الميلادية، فلم يشهد أيٌّ منهم منذ ولادته ثورة شعبية، باستثناء بعض انقلابات العسكر التي تمت على مستوى النخب السياسية دون أثرأ وتأثيرعلى المواطن والشارع، وباستثناء احتلال العراق وانتفاضات فلسطين المتتابعة أيضاً. أما دون ذلك، فقد ولد أغلبهم بعد أن أحكم أغلب الثوريين السابقين قبضاتهم على أزِمَّة السلطة في أغلب دول العالم العربي، وأصبحوا قدراً يومياً في حياة الشعوب. وبالتالي فإن أي تغيير في هذه الصورة التي شبوا عليها يبدو خارج نطاق خيالهم.
تونس، رغم ما كان يعرفه الجميع من فساد نظامها السابق، إلا أن الجميع توقع لها ترتيباً سادساً أو سابعاً في الجدول الزمنيّ للموجة الثانية من الثورات العربية، ليس لأن شبابها أقلّ استعداداً للثورة أو توقاً للتغيير، ولكن لأنها لم تبلغ الحضيض السياسيّ الذي تستوي عنده الأمور وتنقدح معه الشرارة. هذا الحضيض بلغته دول عربية أخرى تدعي الديموقراطية منذ عشرين سنة على الأقل ولكن تونس فاجأت الجميع وسبقت إلى ذلك. أما مصر فقد بدأت في السنوات الأخيرة تسجل نمواً اقتصادياً ملحوظاً قارب الخمسة بالمئة من الناتج العام مما جعلها مقصداً للاستثمار العربي والعالمي، كما سجّلت انفتاحاً إعلامياً تدريجياً تكاد تكون معه أكثر دولة عربية حرية في التعبير. ولكن المصريين عكسوا المسار الاقتصادي الصاعد وانتفضوا في الساعة التي اختاروها واتفقوا عليها (علناً) على الإنترنت.
هكذا بدا الحدثان غريبين وصادمين، إلا أنه ـ في الحقيقة ـ لم يكن لهما أن يكونا على مدى الغرابة ومستوى الصدمة لو أننا ابتعدنا قليلاً عن تفاصيل السياسة والاجتماع، وتأملنا المشهد البشري الكبير. لقد أحصى المؤرخون خلال خمسة آلاف سنة مضت أكثر من خمسمئة ثورة أو انقلاب أو انتفاضة أو اضطراب، أياً كانت التسمية، وذلك منذ ثار السومريون على ملكهم لوقالاندا قبل ميلاد المسيح عليه السلام بألفي سنة وحتى اليوم الذي غادرت فيه طائرة زين العابدين بن عليّ أرض المطار. هذا العدد الهائل من الثورات البشرية التي رصدها التاريخ يعني، بحساب بسيط، أن ثورةً ما تحدث كل عشر سنوات تقريباً. وهو معدّل يجعل حدوث الثورة في بلد كتونس شأناً متوقعاً وعادياً. ولكننا سنضيف إلى هذا الحساب البسيط أيضاً أن عدد الثورات التي حدثت في القرن العشرين فقط يعادل عدد الثورات التي حدثت في خمسين قرناً قبله. أي أن الشعوب في السنوات المئة الأخيرة ثارت أكثر مما ثار أسلافها خلال خمسة آلاف عام. هذا التراكم الثوري في آخر الزمان يرفع معدل الثورات إحصائياً إلى ثورة كل سنة تقريباً. وهو ما ينطبق على الواقع الفعلي هذه الأيام. ففي 2010 ثارت قيرغيستان، وفي 2009 قُمعت ثورة إيران، وفي 2008 شهدنا محاولات شعب بورما للثورة، وفي 2007 حدثت ثورة الطوارق في النيجر ومالي. هكذا منذ بداية القرن الحادي والعشرين، لم تمر سنة إلا وسجّلت على قارعتها ثورة ناجحة أو فاشلة. إنه تسارع مذهل في الوتيرة الثوريّة التاريخية جديرٌ بأن يستهلك عدة أطنان من أبحاث العلوم الإنسانية. وحتى لو افترضنا أن الرصد التاريخي في العصور الغابرة لم يكن دقيقاً ولربما أفلتت ثورات كثيرة من صحائف المؤرخين، فإن الفارق يظل كبيراً، والتسارع مدهشاً. وإذا افترضنا أيضاً أن عدد الدول التي تنتقل فيها السلطة بسلاسة ديموقراطية يتزايد يوماً بعد يوم عن شرقيّ العالم العربي وغربيه وشماله وجنوبه، فهذا يعني أن النسبة الثورية ستتركز في هذا الجزء من العالم، وربما ترتفع حسب الحتمية التاريخية لتصبح ثورتين كل سنة. (وهو ما يسعى لتحقيقه بالفعل عام 2011!). لاسيما أن العالم العربي يمتلك (وذلك مما لا نُحسد عليه!) كل دوافع الثورة ومقومات الغضب، من فساد وتسلط وظلم وجوع وفقر وجهل وبقية موبقات النظم الحاكمة، في الجمهوريات التي تدعي الديموقراطية. رغم ذلك كله لم تتغير مقاعد السلطة في العالم العربي إلا قليلاً.
ما يحدث في مصر أيضاً لا يفترض به أن يكون مفاجئاً وصادماً. فمصر ليست حديثة عهد بتنظيمات شعبية تنهض من أجل حقوقها. أغلب دول المنطقة ابتليت باستعمار ما وتخلصت منه، إلا مصر التي ابتليت بثلاث قوى استعمارية متتابعة تمكن شعبها من طردها واحدة تلو الأخرى. ابتداءً بالفرنسيين، ثم العثمانيين، ثم البريطانيين. وكل حكم استعماريّ كان أشدّ وأنكى على شعبها الحليم. ولكن قدرالحليم أن يغضب، وقدر غضبه أن يثور، وقدر ثورته أن تغيّر وجه المنطقة بأكملها. وهذا ما قام به المصريّون مراراً. كلما بلغ الظلم حداً لا يطيقونه خرجوا إلى الشارع وأعادوا رسم خريطتهم الحقوقية، ولكن المشكلة أنهم كلما عادوا إلى بيوتهم مرة أخرى تسلّط عليهم من يسرق خريطتهم وأحلامهم وهتافهم ويعيدهم إلى المربع الأول حتى خروج آخر. إن الثورات المصرية تتكرر مثل دورة زمنية إذن. وكثير من المتابعين توقع حدوثها مع اقتراب هاجس (التوريث) بل اعتبرها حتماً محتوماً آنذاك، ولكن الجماهير استبقت ذلك وخرجت قبل موعدها المؤجل، ولربما كانت أحداث تونس سبباً إضافياً لتقديم ذلك الموعد، فالثورة دائماً حدثٌ عابر للحدود حتى إن مصطلحاً مثل (تصدير الثورة) أصبح مصطلحاً سياسياً متعارفاً عليه، سواءً إذا ما تم تصديرها عمداً، مثلما سعت إلى ذلك أغلب الأنظمة الاشتراكية في القرن الماضي بدعم مباشر من الاتحاد السوفيتي، أو انتقلت وحدها عبر الجسور الإنسانية المشتركة من التوق للحرية والعدالة، مثلما تسرّبت الثورة الأميركية إلى الفرنسيين فأطلقوا بها ثورتهم الأشهر.