علي الخشيبان

لا أحد يستطيع أن يقول إن الغرب أو غير الغرب كان يخطط منذ سنوات لسيناريو الاعتداء على عربة محمد البوعزيزي المليئة بالفواكه والخضروات ، فما حدث هو نتيجة لتراكمات يمكن ترجمتها بعيدا عن أصحاب نظرية المؤامرة لأنه ليس هناك سوى أصحاب نظرية المؤامرة الذين يملؤهم الرعب من الحياة ، فنظرية المؤامرة هي أكبر الحيل الشعورية التي يزخر بها العالم العربي ، ففي الثقافة العربية العربي هو الشخص الوحيد في العالم الذي لا يريد أحدا أن ينافسه، ويريد العالم كله أن يقتدي بما يقول وإلا فالعالم على خطأ.

وخلال الثورات العربية الماضية دخلت إلى قاموسنا السياسي والشعبي في عالمنا العربي مصطلحات جديدة مثل : الشعب يريد إسقاط النظام ، ارحل ، حرية حرية ، سلمية سلمية ...الخ من العبارات الشهيرة التي رددتها بعض الشعوب العربية، هذه العبارات وغيرها انطلقت في تونس في 18 / ديسمبر / 2010 م ثم في مصر في 25 /يناير/ 2011 م ، ثم في اليمن في 11 فبراير 2011م ، ثم في ليبيا في 17 فبراير 2011م ، ثم في سورية في 15/مارس 2011م ، الجميع يطالب برحيل وسقوط الرؤساء لكن لماذا..؟

هرب أو رحل الرئيس التونسي، ثم سقط مبارك ويقاوم القذافي وعلى صالح والأسد في محاولة لعدم الوصول إلى مرحلة الرحيل ، والكل يريد أن يرى رحيل رئيسه، ولكن السؤال المهم أيضا يقول : إذا كانت الشعوب العربية تريد من رؤسائها أن يرحلوا فهل سيرحل العالم العربي بشعوبه إلى مكان آخر....؟ وما هي المنطقة التي تريد الشعوب العربية الوصول إليها رحيلا..؟ التغيير ليس فكرة تعبر عنها مظاهرة في الشارع: التغيير فكرة أعمق في صميم عقول الشعوب فهل يتوفر ذلك عربيا؟!

لقد خرجت الجماهير العربية إلى الشارع وسبعون في المائة منها ليس لها تمثيل في المجتمع المدني فمن تمثل هذه الجماهير؟!! التغيير أم ماذا تريد..؟

ومنذ انطلاق شرارة الحركات العربية ومئات المقالات كتبت عن هذه الثورات ولكن المقالات العربية التي كتبت ومنها هذا المقال تعاني من الفوضى والتخبط في تفسير ما يجري ، الهاتفون كثر والرافضون كثر، والحائرون كثر والمفسرون اجتماعيا ودينيا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا أكثر من الجميع، كلهم فقد السيطرة وكلهم يحاول أن يجد تفسيرا ولكن أكثرهم ارتياحا هم أولئك المؤمنون بنظرية المؤامرة، فيحيكون قصصا يربطون فيها بين عشرات القصص والأحداث ولكنهم في النهاية يصدقون ما يقولون هم أنفسهم بكل بساطة.

خلال العقود الماضية وخاصة الأربعين سنة الأخيرة شهد العالم العربي رخاء اقتصاديا جعل السياسة تختلط بالاقتصاد بطريقة متراكمة، وتحولت جمهوريات العالم العربي إلى نظام سياسي معقد لا يتغير فيه الرؤساء بينما تدار عملية سياسية عنوانها الانتخابات على المستوى الاجتماعي؛ حيث أصبحت هذه العملية تتكرر سنوات عده ولكن الرؤساء بقوا في عملية ثبات تحت مظلة أحزاب تبدو ذات حراك سياسي غير متحول.

هذه الصيغة السياسية للكثير من الجمهوريات العربية خلقت في الجانب الآخر من الحياة الاجتماعية فراغاً قطع التواصل بين المجتمع والقيادات، ونتج عن ذلك أن الجميع القيادات والشعوب أصبحت في حالة استعداد للرحيل كلما أعادت انتخابها مرة أخرى لذلك عندما اختارت الشعوب العربية مصطلح ارحل لقياداتها لم يكن ذلك صدفة بل كان مبنياً على نهاية متوقعه نظرا لذلك الفراغ بين السياسة، وتلك المجتمعات.

كل الحركات العربية التي حدثت تنطلق من فلسفة واحدة هي اتساع الهوة بين الشعب والسياسة لذلك لن تتعرض الدول المتمكنة سياسياً واقتصاديا ذات العلاقات الثابتة والمستقرة مع مجتمعاتها إلى ثورات ومهما كانت المحاولات لفرض الثورة في بعض المجتمعات إلا أنها لن تنجح. ولعل السبب أن الثورات العربية في هذا القرن هي ثورات اجتماعية يمثل فيها الشعب العنصر الأهم ولكنه شعب بدون قواعد مدنية يمثلها، بينما كانت في السابق تقوم على تغيير في نطاق المنطقة السياسية فقط أما اليوم فكل فرد في الشعب يعتبر منطقة لوحده في عملية التغيير، وهذا جزء من فوضوية الثورات العربية التي يصعب أن نتوقع إلى أين تتجه هل ستنتج ديمقراطية حقيقية أم ستعيد إنتاج تلك الدول بنفس الأسلوب والطريقة ولكن بأدوات مختلفة؟

quot;رحل البعض وقد يتبعهم آخرونquot; على حد قول الرئيس الأمريكي متحدثاً عن الثورات العربية، ولكن العالم العربي الكيان التاريخي والجغرافي والفكري يريد الشعوب العربية أيضا أن ترحل لأنها هي أيضا جزء من المشكلة، والمشهد العربي ينبئ بالكثير من المؤشرات ومشكلة العرب تكمن في تكوينهم النفسي والاجتماعي والفكري وليس أكثر، كل فرد عربي في دولة رحل رئيسها يتحدث عن حقوقه فقط ، قد يرحل الرؤساء ويأتي غيرهم ولكن الشعوب العربية سوف تظل كما هي بنفس السمات ونفس الأفكار، وهذا مصدر القلق وسوف نقضي عقودا قادمة في محاسبة الرؤساء السابقين ومحاكمتهم لصالح كل فرد؛ لذلك أتوقع أن تنصب شماعة الرؤساء العرب الذين رحلوا خلال العقود القادمة ليعلَّق عليها كل أخطاء التاريخ والفكر العربي.

الديمقراطية لن تجلَب عبر مطرقة القضاة في المحاكم التي سوف تنصب للرؤساء السابقين لذلك لن أراهن على هذا الربيع العربي كثيرا إلا عندما يكون الإنسان وفكره وثقافته وحقوقه هي محور القضية ، اليوم يغيب الإنسان عن هذه الثورات عدا انه موجود للهتاف في ساحات المظاهرات، القضية محورها الاقتصاد لأن الأنظمة التي سقطت تلاعبت بقوت الشعوب لذلك غضبت تلك الشعوب أما غير ذلك فلن يحرك الإنسان العربي ساكناً ما دام قوته مضموناً.

وجهة نظري التي أعتنقها أن الشعوب العربية هي أوْلى بالرحيل من رؤسائها ، وقد تكون الأولوية أن يرحل الرؤساء في بعض جمهوريات العالم العربي ولكن الشعوب العربية عليها الرحيل من كل ثقافة تعيق فهمها للحياة. هناك عقبة كبيرة تقف بين العرب وبين تقدمهم تكمن في ثنايا الثقافة العربية لذلك على هذه الثقافة الرحيل من واقع اجتماعي يحصرها في إطار نمطي يغلق كل بوابات الانفتاح أمامها إلى ضفة الانعتاق من واقعها الحقيقي.

الشعوب العربية عليها الرحيل من اعتبار التاريخ وحده ملهماً لها فالحاضر هو جسر المستقبل وللأسف فما يحدث في عالمنا العربي اليوم بغض النظر عن مؤيديه ومعارضيه إنما هو إعادة إنتاج لنفس الشعوب وبنفس المواصفات..

وإذا كانت هذه الثورات ستمنح الشعوب العربية بعض الحقوق وهذا ما يثير الكثيرين من المؤيدين فعلينا أن نتذكر أن الثورات لن تمنحنا سوى تلك الحريات المنتهية الصلاحية في العالم الآخر والتي لم يعد العالم يتحدث عنها بل هي سوف تحدث بشكل تلقائي في كل الأوطان عربية أو غير عربية.