تركيا: التخبط في المسألة السورية!

ميشيل كيلو
القدس العربي
لم تكن موجة الغضب التي انتابت السياسة التركية بعد انقضاء فترة قصيرة من انفجار التمرد الاجتماعي / السياسي السوري ابنة أي سوء فهم، بل كانت فرصة أفصح الأتراك من خلالها عن مواقف ومطالب جديدة تتفق مع المرحلة الراهنة من التطور، وجهوها إلى النظام السوري، الذي كان قد سارع إلى الارتماء عليهم، وفي ظنه أنه يوازن بقربهم وحجم دولتهم وطموحاتها ودورها علاقاته مع إيران وضغوط سياساتها المتطرفة والمتقلبة عليه وعلى أدواره ومواقعه في لبنان وفلسطين والعراق، ويصل عبر أبواب الجار القريب والمتفهم إلى امريكا، التي يعرف وزنها المحلي والإقليمي والدولي، ويؤمن أنها قوة حسم حقيقية أو محتملة، على العكس من أوروبا، التي لا تستطيع أن تكون قوة ضاغطة عليه، ويمكنه استعمالها كورقة ضغط على امريكا، وإن كانت محدودة النتائج والفاعلية وقليلة القيمة على الصعيد الاستراتيجي، بعد أن أخذ الأمريكيون معظم مناطق شرقي المتوسط، وحولوا إسرائيل إلى مركز رقابة متقدم وضارب فيه.
غضب الأتراك، وأعلنوا رغبتهم في إعادة تحديد علاقاتهم مع دمشق من خلال تبني مطالب التمرد عليها، وفي يقينهم أن هذا سيكفل لهم موقع قوة حيال الحليف، الذي كان مقربا جدا إلى ما قبل أسابيع قليلة، يرجح كثيرا أن ينجح في دفعه إلى ترجيح علاقاته معهم على أية علاقات له مع غيره، وخاصة إيران، التي كانت قد أعلنت من جانبها دعم النظام وأدانت الحراك الشعبي، الذي رأت فيه 'أياد إسرائيلية وأميركية واضحة'، حسب رؤية على خامنئي. ردا على هذا الوضع الذي كانوا يمارسون قبل 15 آذار، يوم الانفجار الشعبي في درعا، سياسة السكوت عليه، ويقومون بمحاولات لتغييره، جدد الأتراك بقوة سياسة كسر التوازن، من خلال تصعيد تأييدهم للتمرد المجتمعي المتعاظم الانتشار والتنظيم، فأعلنوا أن أبناء الشعب السوري أخوة لهم، وقالوا إنهم لن يسمحوا باستمرار العنف ضدهم وطالبوا بإصلاح أحوالهم والتجاوب الإيجابي مع رغباتهم، ثم ألمحوا إلى أن جيشهم يراقب وضع سورية عن كثب، وأن وحدات منه قد تنتشر قرب حدود تركيا الجنوبية، وأنهم سيرسلون خبراء في الإصلاح لإرشاد 'الأصدقاء والأخوة' في دمشق إلى سبل الخروج من مأزقهم، بل وحددوا نمط الإصلاح المطلوب، حين قال رئيس وزرائهم السيد رجب طيب أردوغان إن على الرئيس الأسد التخلي عن بعض صلاحياته، وأضاف أن تركيا تريد نظاما برلمانيا حرا، وتعددية حزبية وإعلاما خاصا وغير موجه، فكأنه كان يطالب الأسد بتفكيك نظامه بيده. قال الأتراك هذا، بينما كان 'الحل الأمني' ينطلق في سورية ويفرض نفسه حلا وحيدا في وجه أي حل أو مخرج سياسي، مرجحا كفة العلاقة مع إيران، نصيرة الحل العنيف، على العلاقة مع أنقرة، التي تبنت سياسة متوترة وذات أهداف طموحة، لكنها افتقرت إلى الوسائل الضرورية لتحقيق ما تروم.
بعد فترة من التهويل والتصريحات المتلاحقة، أوهمت قطاعا واسعا من الشعب السوري أن تركيا ستسارع إلى نجدته، خفت الصوت التركي تدريجيا، وتبين أن مطالبه كانت تتأرجح بين حدين:
- الوصول إلى حل سريع للوضع السوري، ما دام تفاقمه وتوسعه وانقلابه إلى اقتتال طائفي، على حد قول اردوغان، سينعكس سلبا على الأوضاع التركية الداخلية، حيث توجد تكوينات مجتمعية (أو بالأحرى ما قبل مجتمعية) تشبه ما هو موجود منها في سورية (أقليات طائفية وإثنية ناقمة ومسلحة)، قد تنجر إلى وضع يشبه وضع مثيلاتها في سورية. هذه المخاوف الداخلية الصرف جعلت السياسة التركية تطالب بحل سريع للمشكلة السورية حاولت اسطنبول أول الأمر بلوغه عن طريق الضغط بالتمرد على أهل الحكم، وحين رأت ما لديهم من قدرات عسكرية / أمنية، وفهمت معنى ما اتخذوه من قرارات لإخماد الحراك الشعبي، عادت إلى موقف يقع وراء موقفها الذي سبق الانفجار السوري : إلى علاقات تتسم بالجفاء والشك، وبدأت تنتظر التطورات أكثر مما تؤثر فيها أو تحددها، ثم ركزت جهدها على ضبط وضعها الداخلي، لاعتقادها أن الحالة السورية ستستمر لفترة غير قصيرة، وأن عجزها عن التأثير فيها قد يزداد بدل أن يتناقص. إلى هذا، ربما تكون اسطنبول قد فهمت بدورها أبعاد العلاقات السورية مع طهران، وكم هي كبيرة أبعادها الداخلية المتبادلة والمؤثرة على دمشق. فهم السوريون العاديون الآن أن تركيا لم تكن ضد الحل الأمني، بل تخوفت من نتائجه عليها وقد تكون طالبت بحسم سريع عنيف، فأصابتهم خيبة من الأخوة على البوسفور لا تقل عن خيبتهم في أوروبا وامريكا، وتكاد تقترب من خيبتهم في إخوتهم العرب.
- إشراك إسلاميين في السلطة السورية الجديدة، التي اعتقدوا أنها ستقوم في فترة غير طويلة، نتيجة للتمرد ولضغوطهم المكثفة على دمشق، والإصلاح الذي قالوا إنهم وعدوا بتحقيقه. خطط الأتراك لامتلاك ضمانة داخل السياسة وربما السلطة السورية تكفل تفوقهم على إيران وأنصارها في حكم دمشق، ستزيد فرص إجباره على السير معهم، حتى لا أقول في ركابهم، فتنتهي علاقاته الخاصة مع طهران، وتخرج اسطنبول بغنيمة مزدوجة: سورية، وامتنان امريكا، التي سترى فيها سيدة الشرق وقوة حسم حققت إنجازا عجزت هي نفسها عن تحقيقه : طرد إيران من سورية، وإضعاف وجودها في لبنان، وتجفيف منابع قوة حزب الله، والتعامل مع إسرائيل من موقع قوة، استباقا لعودة مصر إلى العالم العربي وما سيرافقها من صراعات إقليمية ومحلية معقدة، وما سيترتب عليها من نتائج انقلابية بكل معنى الكلمة. رأى الأتراك أن سورية ستصاب بضعف حقيقي بعد خروج إيران من العالم العربي، وأن حكامها سيرحبون بحلولهم محلها، بالتفاهم مع مصر على الأرجح، لان في ذلك مصلحة لهم، خاصة إن كانوا يريدون حقا استعادة الجولان، ويتطلعون إلى استقرار إقليمي يقبلون معه إنهاء دور تدخلي في شؤون جيرانهم العرب سبب لهم مشكلات متجددة مع معظم دول العالم.
لم ينجح رهان تركيا الثاني، حتى أن النظام السوري لم يبد إلى اليوم استعداده للتصالح مع الأخوان المسلمين، أو للسماح لهم بالعودة إلى دمشق. هكذا فشل أحمد داوود أوغلو، وزير الخارجية الأريب وعالم السياسة اللبيب، في تحقيق سياسة صفرية المشاكل مع الجوار، وأعاد بلاده إلى نقطة تكاد تكون صفرية فعلا في علاقاتها مع دمشق، التي اعتقد خطأ أنها ستقبل ما يطلبه منها، تحت ضغط وضعها الحرج والمتعاظم الصعوبة، الذي يضعها في سياق يتعارض جذريا مع تطورات المنطقة، ويفرض عليها إعادة نظر شاملة في أوضاعها وخياراتها انطلاقا من أحوال واعتبارات داخلية كثيرا ما أهملتها، بما أنها كانت تنتج شرعيتها انطلاقا من دورها الخارجي، فإذا بالمواجهة الدامية مع شعبها، الذي يطالبها بإعادة نظر جدية فيها، وبإصلاح يطاول جميع جوانبها، تقلب الوضع رأسا على عقب، وقد تؤدي عمليا إلى تغيير نظامها.
انكفأت تركيا على نفسها، رغم تصاعد التمرد الشعبي السوري، فكأنها تريد امتصاص فشل تسرعها السياسي وتخطيطها المرتجل. واليوم، وبعد أن اقترب العسكر السوري من حدودها، وتوسع الصراع الداخلي وبدأ يأخذ أشكالا تفتيتية وتمزيقية، تبدو أنقرة وكأنها فقدت لسانها وعزيمتها، وشرع ينتظر مشدوها ما سيحدث، وقد بان له كم كانت قدراته وطاقاته أقل من طموحاته، وكم كانت وهمية تلك النزعة النظرية لسياستها الخارجية، التي عجزت عن الفعل في واقع سوري بدأت تتعامل معه بصخب شديد وتعال، ثم أخذت تصمت عنه إلى أن أصيبت بخرس كامل وشلل معطل، مع أن أيا من هدفيها لم يتحقق، فلا الحل الأمني نجح في وقف التمرد ولا الإسلاميون عادوا إلى دمشق أو شاركوا في حكمها فرادى كانوا أم جماعات. وفي حين أثبتت طهران أنها حليف موثوق للنظام، تبدو تركيا، بعد تبنيها سياسة أقرب إلى الحياد السلبي، دولة حائرة، يغلط من يعلق آماله عليها، لأنها لم تعرف كيف تصل إلى ما تريد!.
طيب تيزيني
المادة الثامنة والإصلاح السوري
الاتحاد الإماراتية
تنشغل أوساط سياسية وثقافية وحقوقية في سوريا الآن، بمناقشة واحدة من أهم المسائل المطروحة للحوار الوطني الديمقراطي، نعني المادة رقم ثمانية من الدستور السوري، والتي تنص على ما يلي: يقود حزب quot;البعثquot; العربي الاشتراكي الدولة والمجتمع في سوريا. وكما يظهر، تبدو المادة بمثابة تأكيد على أن quot;مرجعية سورياquot; تتمثل في كونها متحدرة من أصل واحد، دون أصول أخرى موجودة في البلد. إضافة إلى ذلك، وعبر تحديد معطيات أخرى تخص الموضوع، فإن مؤسسات كبرى مثل quot;مجلس البرلمان أو الشعب والمؤسسة الرئاسية، وكل ما يتمم هذه اللوحة، تستمد شرعيتها الأولية من تلك المرجعية المأتي عليها.
والآن، حين يُطرح الحوار حول المادة المذكورة -وقد طُرح قبل ذلك في مناسبات متعددة ضمت دمشق وحلب ومدناً أخرى، يثير ردود فعل في أوساط حزب quot;البعثquot;. أما في مقدمتها، فتبرز الفكرة القائلة إن إبعاد هذا الأخير عن التميّز الذي حصل عليه على مدى عدة عقود يعني حرمان سوريا من قوة تاريخية منظمة حققت الكثير من المنجزات على الصعيد الداخلي والخارجي، كما يعني تعريض البلد لاحتمالات الفوضى والاضطراب وربما كذلك لحرب طائفية.
ولعلنا نلاحظ أن الخطاب المقدم على ذلك النحو يقوم على ركيزتين اثنتين هما الإقصائية الاستفرادية والشمولية: حزب quot;البعثquot; المذكور هو وحده المعْنِي بشؤون البلد الكبرى ربما لامتلاكه من quot;الملَكات والخبرات والطاقة الخاصةquot;، التي لا يملكها حزب أو هيئة أخرى في سوريا، مِمّا يحتِّم بقاء الحزب لصالح سوريا نفسها. هذا من طرف أول. أما من طرف آخر، فإن إخراج هذا الحزب من موقعه الذي شغله ما يقترب من خمسين عاماً سيكون استجلاباً لقوى دينية سياسية ذات طابع أصولي سلفي وتوجه ظلامي إلى النور ثم إلى السلطة! وهذا بدوره يؤدي إلى مخاطر كبرى في الداخل السوري كما في الخارج.
بيد أن من يدقق في الداخل المذكور، يجد أن ما قام الشباب من أجله، هو حتى الآن مفتقدٌ في سوريا: من الحرية السياسية والكرامة الأخلاقية والكفاية المادية، إلى باقي الملفات الملتهبة وذات العلاقة بالثلاثي المقدس المذكور، انطلاقاً من إلغاء قوانين الطوارئ والأحكام العرفية والمادة الثامنة إياها، إلى تفكيك الدولة الأمنية، وإصدار قانون عصري وديمقراطي للأحزاب، وآخر للإعلام والشروع في التهيئة لانتخابات برلمانية مع انتخابات رئاسية بإشراف لجنة أو لجان حقوقية محايدة حقاً. ولا بد أن يسبق ذلك كله استحقاق يمثل مدخلاً له، هو تشكيل مجلس دائم للحوار الوطني الديمقراطي، يشرف على تشكيله وضبط برنامج عمله ممثلون للمعارضة الوطنية. وهكذا بحيث يطال الأمر مشكلات أخرى، مثل محاكمة مَنْ قتل الشهداء والمظلومين من كل الأطراف، والتأسيس لقضاء حر مستقل مع متابعة دقيقة للعمل على استكمال عملية تشكيل سلطة انتقالية.
وثمة نقطة حاسمة تتصل بالمادة الثامنة من الدستور، وهي إن ما يماثل هذه المادة في الاتحاد السوفييتي السابق، هي التي كانت خصوصاً، من وراء تفككه وتصدعه. فلقد اختزلت هذا البلد الضخم إلى الحزب الشيوعي، وهذا إلى اللجنة المركزية وهذه إلى المكتب السياسي، الذي يقف على قمته أمين عام غالباً حتى مراحل ممتدة من عمره. لقد فقدت البشرية ذلك البلد بما كان يمكن أن يعممه أو يطوره من مسائل تتصل بالعدالة والتضامن بين الناس. لقد سقط كل شيء وتحول ذلك البلد إلى حالة اقتصادية إشكالية إضافة إلى مشكلات أخرى. ولا يهمنا، فما حدث في الاتحاد السوفييتي، يمثل تجربة مليئة بالعبر تستطيع سوريا أن تقرأها نقدياً. وأخيراً: ما الحافز الأخلاقي الكامن وراء الاستفراد بالسلطة وغيرها من قِبل فريق واحد من المجتمع؟!