يوسف نور عوض
عندما انطلقت ثورات الربيع العربي، توقع الكثيرون أن تحدث تغيرات سياسية كبيرة في البلاد العربية، لكن شيئا من ذلك لم يحدث على المستوى المتوقع، ذلك أن التغيير حدث في مستوى السلطة وحده، كما هو الشأن في تونس وليبيا ومصر.
غير أنه لم يحدث على مستوى تغيير أشكال النظم السياسية، والسبب في ذلك هو أن معظم الدول العربية لم تعرف المطلوب من أجل بناء نظم ذات طبيعة سياسية واقتصادية جديدة، غير أنه حين بدأت الثورة في سورية تغير المشهد كله، ليس لأن الناس ظلوا يتوقعون تغيرا لم يكن متوقعا في بقية الدول العربية، بل لأن الوضع في سورية فتح صفحة لم تكن معروفة من قبل، إذ المعروف أن سورية التي لا تؤثر من الناحية أو الاقتصادية في بلاد العالم العربي، احتلت مكانة هامة خلال المرحلة الناصرية، بكون عبد الناصر الذي رفع شعار القومية العربية لم يكن يمتلك أيديلوجية نظرية يحقق بها تصوراته في القومية العربية، وذلك على عكس حزب البعث الذي كسب أرضية واسعة في كثير من الدول العربية على اعتبار أنه يقدم أيديولوجية يمكن أن تقف في وجه الفكر الاشتراكي والشيوعي الذي كان سائدا في تلك المرحلة، ولم يكن هناك في ذلك الوقت من ينظر إلى الخلفية الطائفية التي يقف عليها حزب البعث، أو كيف أن مثل تلك المذهبية يمكن أن تحول بين الحزب وقدرته على أن يحقق وحدة عربية في مجتمعات سنية تحت قيادة علوية، لكن عندما اندلعت الثورة الأخيرة انكشف المستور وأخذ الناس ينظرون إلى طبيعة الصراع الدائر في سورية، وكانت المفاجأة كبيرة عندما رأى هؤلاء أن النظام السوري لا يقف خلف نظرية قومية بقدر ما هو يقف وراء خلفية طائفية .غير أن الثورة السورية لم تقف عند هذا الحد وحده، إذ هي قد تجاوزت هذا الواقع وقدمت بانوراما كاملة لوضع سياسي أكثر تعقيدا، ووضح تماما أن المواقف الدولية تجاه النظام السوري لم تكن في مجملها تستهدف وضع حد لإراقة الدماء في هذا البلد بقدر ما كانت تستهدف تسجيل مواقف تذهب الحرج، ويبدو ذلك واضحا في مواقف الولايات المتحدة التي تتحدث على لسان وزيرة خارجيتها عن رغبة في فرض عقوبات على النظام السوري دون أن يتحقق من ذلك شيء وهو موقف قريب من موقف إسرائيل التي تصر على أن نظام الأسد هو نظام الشيطان الذي تعرفه والمقصود بذلك إنه النظام الذي عاش أكثر من أربعين عاما تحت الاحتلال الإسرائيلي في منطقة الجولان، ولكنه لم يتجرأ على إطلاق طلقة واحدة في اتجاه إسرائيل فهل تريد إسرائيل أفضل من ذلك؟
ويبدو أن الوضع في سورية الآن لا يقتصر على مواقف الدول الأجنبية بل يتمركز أيضا في إستراتيجية السياسات الإقليمية خاصة حين ننظر في العلاقات القائمة بين إيران والنظام السوري، وهنا ننظر في ازدواجية المعايير التي يستخدمها بلد مثل الولايات المتحدة كما جاء في مقال نشرته صحيفة النيويورك تايمز حول زيارة عضوين بارزين في مجلس الشيوخ هما السناتور جون ماكين ولزلي غرايام لمنطقة الشرق الأوسط، وهما عضوان في لجنة الشؤون العسكرية في الكونغرس، وقد وضعا بعض المقترحات الإنسانية والعسكرية ومنها تقديم بعض المعونات للثوار السوريين، وليس ذلك من أجل كسب معركتهم بل من أجل إضعاف إيران. وقد يكون ذلك هدفا استراتيجيا للولايات المتحدة، ولكن لماذا لا يكون هناك هدف في الوقت ذاته لخدمة مصالح الشعب السوري
السبب في ذلك هو أنه على الرغم من انتهاء الحرب الباردة ودخول العالم إلى مرحلة جديدة فإن الحرب الباردة ما زالت تلقي بظلالها على الواقع العالمي، وظهر ذلك بشكل واضح في مواقف روسيا والصين في مجلس الأمن من سورية، ذلك أن هاتين الدولتين حالتا دون صدور أي قرار يدين النظام السوري أو يوجه عقوبات ضده. وترى الصين التي أرسلت مندوبا لمقابلة الرئيس الأسد في دمشق أنه مازالت هناك فرصة للتوصل لحل سلمي للمشكلة السورية، ولا توضح الصين أي حل سلمي ينتظره الناس في سورية، ذلك أن الشعب السوري لا يقف الآن في مرحلة يحتاج فيها إلى تفاهم مع نظام الأسد بل هو يرى أن هذا النظام غير شرعي أصلا، ولا يجب أن يكون هناك تفاهم معه، ومن المثير للسخرية أن كثيرا من المسؤولين الدوليين يستمرون في إطلاق شعارات مثل لقد فقد النظام كل مشروعية له، فهل كان للنظام أصلا أي شرعية حتى يفقدها؟
وفي الواقع فإن مثل هذه المواقف التي تثير الاستغراب لا تقتصر على الدول الأجنبية وحدها، بل تشمل العالم العربي الذي يعمل من داخل الجامعة العربية، التي ظلت تعلن مبادراتها التي لا تستهدف إنهاء الوضع كله بل تهدف فقط إلى إيجاد الصيغ التفاوضية، ولا تتردد الجامعة العربية في متابعة مسارها حتى في المناطق المغلقة مثل الأمم المتحدة، ذلك أن الجامعة العربية تدرك أن الأمم المتحدة لم تكن في يوم من الأيام مؤسسة ديمقراطية أو تعبر عن شعوب العالم لأن القرار المهم فيها يتم في مجلس الأمن، ومجلس الأمن فيه خمس دول تمتلك حق الفيتو ويمكن أن تعطل أي قرار دولي حتى لو تعارض مع مصالح دول العالم، أما الجمعية العامة فهي مؤسسة فاقدة لأي قيمة لأنها مجرد مسرح للخطابة وتعتبر سائر قراراتها غير ملزمة، فلماذا يهتم بها العالم؟ ولماذا تضيع دول العالم وقتها في الانضمام لهذه المؤسسة المترهلة؟ فهل هناك ما يمنع أن تتمرد دول العالم على هيئة الأمم المتحدة إما بالخروج منها وإما بتكوين مؤسسة جديدة تكون أكثر حرية وديمقراطية؟
ولا شك أن الموقف في سورية هو من أكثر المواقف تعقيدا، ولكن الأمر لا يقتصر على سورية وحدها، ذلك أن العالم العربي في معظمه يحتاج إلى عملية إصلاح، ولا بد في الوقت ذاته أن تحدث تحولات في المنطقة تساعد على تغيير الواقع العربي، وأهم هذه التحولات التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية، ذلك أن معظم مشكلات العالم العربي هي في حقيقتها بسبب السياسة المتكلسة التي يتبعها العالم الغربي حفاظا على ما يعتقد أنه المحافظة على مصالح إسرائيل، وهذا وهم كبير لأن إسرائيل تعيش في مرحلة جديدة من تاريخها، وإذا كانت كثير من الدول العربية في الماضي تعلن سياسة المواجهة مع دولة الكيان الصهيوني فإن الوضع يختلف الآن، وعلى الرغم من اختلافه فإن إسرائيل لم تحاول أن تصحح سياستها، فهي ترفض حتى الآن أن تتوصل إلى حلول مع الفلسطينيين ومازالت تنتزع أراضيهم وتقيم فيها المستوطنات فهل تتوقع إسرائيل أن يستمر هذا الحال زمنا طويلا، بعد أن ظهرت بوادر الثورات في العالم العربي ومن المحتمل قريبا ألا تكون السلطة في أيد تهادن إسرائيل بل في أيد تكون مستعدة للمواجهة، إضافة إلى حقيقة أن الزيادة المضطردة في أعداد الفلسطينيين سوف تفرض أن يكون هناك حل جذري لمشكلتهم، ومتى تحقق ذلك سوف نرى عالما عربيا جديدا لا ينتمي إلى ما كان سائدا من قبل. وبالتالي فإن حل مشكلة مثل المشكلة السورية لا ينبغي أن يكون بأساليب تقليدية أو بمناورات دولية، بل ينبغي أن يكون في إطار رؤية واضحة لما ينبغي أن يكون، ولا يعفي هذا بالطبع دول المنطقة ومنها سورية في أن تعيد التفكير في كيفية تطوير أساليب الحكم وتحقيق التقدم الاقتصادي لسائر المواطنين، وهنا يجب أن يعاد النظر بصورة كلية في الجامعة العربية بحيث لا تكون الجامعة مؤسسة فوقانية تحرص دولة ما على استضافتها وقيادتها، دون تقدير لأن فعالية الجامعة العربية إنما تتحقق عندما تصبح ملكا للجميع ويشعر كل عضو فيها أنه قادر على تشكيل قيادتها والتحكم في سياستها.
- آخر تحديث :
التعليقات