&غلاس يكتب عن ذاكرة الحرب: أي ذاكرة ستبقى لجيل المستقبل عن سوريا..

إبراهيم درويش

&ماذا سييقى من الذاكرة السورية؟ وكيف سيقوم أبناء اليوم إعادة سرد ما شاهدوه من فظائع وويلات لأجيال المستقبل من الأبناء والأحفاد؟ وهل بقي في سوريا ذاكرة؟ فـ»تنظيم الدولة ـ داعش» يريد إعادة السكان إلى «السنة صفر» حيث سيبدأ التاريخ من ما تسمى «الخلافة».


وسيجد بقية اللاعبين في الدراما السورية ما يقولونه عن التاريخ ويعيدون كتابة الرواية كما فعل المنتصرون في عراق ما بعد الغزو. رغم أن هناك فرق بين التاريخ الرسمي الذي يقرأه التلاميذ في المدارس وبين الذاكرة الشفوية التي يحملها الضحايا معهم. فهذه تظل حية وإن دخلت عليها تفاصيل وملامح لم تكن في القصة أصلا، فالناجي من المعاناة يحاول بناء أكبر قدر من الإثارة على القصة ويبني صورة عن «الفردوس المفقود» الذي أجبر على تركه تاركا للخيال أن يلعب لعبته والحقيقة لتضيع في التفاصيل.
وفي الدراما السورية اليوم ما يغذي ذكريات الغد، فهي لن تكون عن القصف والمذابح والملاحقة والتجويع والحصار فقط بل وأيضا عن الرحلة الطويلة في البحر وبين السهول والجبال في الطريق إلى «أرض الحليب والعسل» أوروبا في هذه الحالة.


وسجلت العدسة ملامح من القصة ووثقت شهادات لكن الصورة سرعان ما تنسى بين ركام هائل من الصور التي تلتقط يوميا عن المعاناة والرحلة ولن يبقى سوى ألم الفقد والبحث عن عزاء. فالمهاجر في النهاية سيكتب روايته الأخرى، ومن منفاه الذي اختاره سيعيد كتابة التاريخ من جديد. ويكتب في هذا السياق المؤلف والإعلامي والناشر الأمريكي تشارلس غلاس عن ذاكرة الحرب، فمؤلف كتاب «سوريا تحترق: داعش وموت الربيع العربي» يتحدث عن علاقة الحرب بالذاكرة.
ويشير للكيفية التي حكت فيها جدته اللبنانية التي فرت من جبل لبنان في القرن التاسع عشر عندما واجهت قريتها الدولة العثمانية. ورغم أن والدها قتل قبل أن ترى النور بأشهر إلا أنها حملت في ذهنها صورة حية عنه وهو يواجه القوات العثمانية ويقاتلهم من على ظهر فرسه.
وروت القصة وكأنها شاهد حي على معارك والدها «ولا أعرف ماذا حدث بالضبط إلا أن قصصها ومنها التي حكتها عن الأنهار الباردة التي يمكن أن تنشق فيها حبة البطيخ إلى نصفين ظلت لأحفادها حقائق غير قابلة للشك».
ويقول غلاس في مقال نشرته مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» إن السوريين اليوم يعانون عذابا طويلا لا نهاية له يعيد للحياة التجربة التي عاشها أجدادهم قبل قرن من الزمان والتي حفظها الروائيون والشعراء، فقد ارتبطت الحرب العالمية الأولى بالذاكرة التاريخية السورية ـ وبلاد الشام عموما- بالسفربرلك والتي دفعت فيه الدولة العثمانية أو ما تبقى منها بالآلاف من المجندين الشباب للجبهات وأجبرتهم على العمل وخوض معارك باستخدام أسلحة قديمة وواجهوا المرض والموت والجوع والاعتقال في سجون الأعداء. وهو يشير هنا لما كتبه المؤرخ الفلسطيني سليم تماري عن صورة الحرب العالمية الأولى بأنها كانت أربع سنوات من البؤس ارتبطت بدكتاتورية أحمد جمال باشا (السفاح) والسفربرلك وإعدام الوطنيين العرب في ساحة البرج في بيروت، آب/أغسطس 1916.
ولا تزال صورة هذه الحقبة التاريخية التي مضى عليها قرن من الزمان تقريبا حاضرة في الذهن فلم ينس سكان المشرق العربي الجوع بسبب الحصار الأنكلو- الفرنسي في حينه. وعمت الكارثة كل مناطق بلاد الشام، فقد مات الناس في شوارع مدينة حلب لدرجة لم تتوفر فيها الأكفان لنقل الموتى للمقابر تماما كما كما يموت الناس اليوم في حلب من البراميل المتفجرة ويموت سكان مخيم اليرموك قرب دمشق من الجوع والفاقة.


وفوق الجوع والحرب جاء الجراد في عام 1915 ليأكل قمح الموسم، فتحول الناس أو بعضهم لأكلة لحوم البشر، ومات أكثر من نصف مليون من أربعة ملايين هم سكان سوريا الكبرى في تلك الفترة. وسجل الروائي السوري المعروف حنا مينا في راويته المعروفة «بقايا صور» (1975) بعضا من ملامح ذلك الزمن القاسي.

إعادة الشريط

ويعلق غلاس أن الحرب السورية التي مضى عليها أربع سنوات ونصف تقوم بإعادة خلق بؤس ومعاناة الزمن القديم- فقر التغذية والتجويع والوباء وترحيل معظم السكان ووحشية المتقاتلين وعذاب الأطفال وتفضيل القوى العظمى النصر على السكان لا لهم. ورغم توقف الحرب العظمى في العام الخامس إلا أن الحرب الحالية تسير نحو عامها السادس من دون نهاية قريبة.
بل هي مرشحة للتصعيد مع دخول القوات الروسية الحرب وإرسال الجنود والمقاتلات التي تستهدف مقاتلي المعارضة السورية، فيما زادت إيران من انخراط عناصر الحرس الثوري في المعارك وكذا أرسل حزب الله مقاتلين جددا إلى جبهات المعركة.
وردا على التصعيد الروسي – الإيراني قررت الولايات المتحدة وحلفاءها العرب والأتراك زيادة الدعم العسكري لجماعات المعارضة المعتدلة. ورغم كل هذه التعزيزات والتجهيزات فما كان صحيحا في عام 2011 لا يزال يصلح اليوم «فلا يستطيع أي طرف حسم المعركة لصالحه».

العودة إلى دمشق

عاد غلاس إلى دمشق بعد انقطاع عام عنها. ويقول إن ما شاهده في العام الماضي قد تغير بالكامل. فحينها كان النظام يبدو متفوقا: خرج المقاتلون من البلدة القديمة في حمص، انسحب الجهاديون من بلدة «كسب» الأرمنية قرب الحدود مع تركيا، فيما كان جيش الأسد يتقدم في ضواحي العاصمة وبسبب صعود «تنظيم الدولة» كان هناك حديث في العواصم الغربية عن عقد تحالف مع نظام الأسد.
وكانت شكاوى أهل دمشق تتركز على نقص الكهرباء والمواد الأساسية والقصف العشوائي الذي يقوم به المسلحون للعاصمة.
تغير كل شيء اليوم، فقد تراجع النظام من مدينة إدلب وحاصرته قوات المعارضة المدعومة من تركيا في مدينة حلب فيما سقطت «جوهرة الصحراء» تدمر بيد «تنظيم الدولة» الذي عذب وذبح عالم آثار عمره 82 عاما ودمر المعالم الرومانية المهمة فيها.
وبدأ الشباب بالهجرة لتجنب التجنيد مع أي طرف في حرب تبدو أبدية ومن دون نتيجة واضحة. لم يبق في دمشق إلا الأبناء الذين لا أشقاء لهم حيث يجنب قانون الجندية السورية هؤلاء من الخدمة في الجيش لأن خسارة الوليد الوحيد للعائلة تعني خسارة العائلة كلها، وهو نفس ما كان معمولا به في زمن الأتراك.
وزادت نسبة التضخم إلى 40% ولم يعد النظام يسيطر إلا على نسبة قليلة من أراضي سوريا. وباتت المعارضة والجهاديون يسيطرون على نسبة 65% فيما ترفع «غينيس» للبحوث الأمنية النسبة إلى 83%.
وتعيش نسبة ما بين 60-80% في مناطق الحكومة. وتضاعف عدد المهاجرين من مناطق المعارضة إلى مناطق الحكومة.
ونقل غلاس عن إليزابيث هوف مديرة منظمة الصحة العالمية إن 9 من 10 مرضى في مستشفيات العاصمة ليسوا من أبناء دمشق بل جاءوا من الرقة وأماكن أخرى.
هذا الوضع القاتم اليوم في سوريا يتناقض مع الآمال التي حملها مؤيدو الإنتفاضة في بدايتها عام 2011 حيث توقعوا نصرا سريعا وحاسما كالذي تحقق في مصر وليبيا وتونس.
وينقل غلاس عن صديق سوري يعيش في المنفى أن روبرت فورد، السفير الأمريكي السابق حاول في تشرين الأول/أكتوبر 2011 تجنيده ليعمل في حكومة ستحل قريبا محل بشار الأسد.
وأعلن السفير الفرنسي إريك شيفاليه عندما غادر دمشق أنه سيعود بعد رحيل الأسد في «غضون شهرين». وما حدث يقول غلاس بخلاف الأماني، فقد قتل أكثر من 320.000 سوري وشرد 4 ملايين بالإضافة إلى 7.6 مليون نازح في وطنهم. وبسبب فقدان الأمل بنهاية الحرب اندفع اللاجئون في دول الجوار: لبنان والعراق وتركيا والأردن نحو أوروبا وخلقوا أكبر كارثة لجوء لم تشهد أوروبا مثيلا لها في تاريخها.
وبالنسبة لحكومة فورد التي كانت تنتظر التنصيب فقد انهارت بسبب الخلافات الداخلية.
فلم تعد هناك قوة فاعلة تواجه النظام إلا المقاتلين الإسلاميين الذين يدمرون كل شيء من التاريخ والآثار والتحف والمخطوطات والمجتمعات الدينية وفوق كل هذا يدمرون التسامح ويخلقون جوا من الكراهية والعداء.

كيف حدث هذا؟

ويشير غلاس إنه وبعد 4.5 عاما من الحرب والإقتتال يتساءل السوريون بطريقة أو بأخرى: كيف وصلنا إلى هذه المرحلة وإلى أين نحن ذاهبون؟
ويتساءلون عن السبب الذي أدى لعسكرة الانتفاضة وجعلها تعتمد على لغة البندقية بدلا من الإحتجاج السلمي.
ويرى الكاتب أن الولايات المتحدة شجعت المعارضة المسلحة منذ البداية ويشير لتصريحات نائب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن الذي قال في 24 تشرين الأول/أكتوبر 2011 والتي اقترح فيها إمكانية استخدام النموذج الليبي حيث قاد تحالف أنكلو- فرنسي بالتعاون مع أمريكا والناتو حربا للإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي.
ومع ذلك لم تساعد أمريكا المعارضة إلا بالقدر اليسير حيث فتحت وكالة الاستخبارات الأمريكية معسكرات تدريب في تركيا والأردن ووفرت قطر والسعودية السلاح لجماعات المعارضة. ولم ينهر النظام «سريعا» كما توقع الغرب وحلفاؤه.
والسبب «إيران» فقد تعاملت أمريكا وبريطانيا وفرنسا وتركيا والسعودية وقطر وإسرائيل مع التحالف السوري – الإيراني كمحدد لمصالحها في المنطقة.
فالتوسع الإيراني الذي استفاد من الوجود الشيعي في البحرين والعراق واليمن ولبنان وسوريا كان مقلقا لهذه الدول ولهذا قررت كسر جموح «الهلال الشيعي» في ميدان المعركة وفي سوريا تحديدا.
وبدلا من إضعاف التأثير الإيراني تقوى وأصبح الجيش السوري معتمدا على الخبرة والاستشارة الإيرانية مما يعني نفوذا واسعا لإيران في اللحظة التي ينتصر فيها النظام. ويشير الكاتب للدور الذي يلعبه الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في إصدار قرارات الحرب من دون أي دور لقادة الجيش السوري. وفي حلب يدير المستشارون الإيرانيون المعركة فيها.

احتلال إيراني

وينقل غلاس شهادات من سكان دمشق، فرجل أعمال سني تحدث عن «شعور الكثير من الناس باحتلال إيراني» فيما يقول صاحب محل في السوق القديم أن مقاتلين شيعة سيطروا على حيه.
وعبر علوي يعيش في المدينة عن رغبته بالرحيل «أنا علماني ولكنني لا أحب الأسلمة التي جلبها حزب الله». ويشير غلاس إلى أن سوريا أصبحت ساحة صراع ديني بين ممثلي ولاية الفقيه والجهاديين الذين يستلهمون أفكارهم من السلفية الوهابية من تنظيم «القاعدة» وأمثالهم.
ولهذا السبب يقول إن الكثير من العلمانيين السوريين رحبوا بالروس مع أنهم لا يركزون كثيرا على «تنظيم الدولة» بقدر ما يستهدفون المعارضة المسلحة.

التاريخ وما أدراك ما التاريخ

هناك مقاربة واضحة بين الأخطاء التي ارتكبها الغرب في الحرب اليوم في سوريا وبين ما فعله العثمانيون عندما أعلنوا الحرب على دول الحلفاء عام 1914. فقد اعتقد قادة «تركيا الفتاة» أنهم سيعززون سلطتهم على المشرق ويستعيدون مصر من الخديوي ويوسعون نفوذهم في مناطق المسلمين بروسيا.
وأعلن السلطان العثماني الجهاد ضد بريطانيا ولم يستجب له المسلمون مثلما لم يستجب السوريون لدعوات الجهاد ضد النظام العلوي. خسر العثمانيون إمبراطوريتهم واتهموا بارتكاب مذبحة الأرمن ودخلت قوات الحلفاء عاصمتهم إسطنبول.
وبالمثابة نفسها ارتكب بشار الأسد الخطأ عندما سمح لأجهزته الأمنية إطلاق النار على المتظاهرين حتى يعودوا لبيوتهم. لم يرجعوا واستمرت الحرب.

عسكرة الانتفاضة

ينقل غلاس عن إيليا سمعان وهو عضو في الحزب القومي السوري قوله إنه شارك في التظاهرات الأولى ضد النظام عام 2011 ولاحظ في الشهر الأول رايات رفعت في حمص ترفض حزب الله وإيران وتطالب بقائد إسلامي يخشى الله. وبعد أشهر بدأت الأسلحة توزع تحت غطاء «حماية المتظاهرين».
ومع زيادة قمع الحكومة وسيطرة المسلحين على الانتفاضة فقدت التظاهرات قيمتها وأهميتها.
وفي كل هذا قاوم قادة أوروبا موجات المهاجرين حتى صورة إيلان الكردي التي أشعرتهم بالخجل وظلوا يتحدثون عن عملية سياسية. واليوم يتحدثون عن عملية سياسية تشارك فيها أمريكا وروسيا وإيران والسعودية وقطر وتركيا.
وبين الرحلات المكوكية التي يقوم بها ممثلو المعارضة والنظام والدول المؤيدة والمعارضة لطرفي النزاع يبدو الحل بعيدا. وكل هذا يذكر بعملية التسوية السلمية الفاشلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
ويشير غلاس إلى أن الحرب العالمية الأولى انتهت بتقسيم سوريا بين المنتصرين – بريطانيا وفرنسا – وهي قسمة ظلت مصدرا للألم والمعاناة منذ ذلك الوقت. ولا يعرف أحد إلى أين تنتهي هذه الحرب وماذا سيقول الجيل الحالي للابناء والأحفاد عنها. ويذكرنا هنا بالقصيدة التي كتبها الشاعر والفيلسوف المعروف جبران خليل جبران «مات أهلي»: مات أهلي وأنا على قيد الحياة أندب أهلي في وحدتي وانفرادي. مات أحبائي وقد أصبحت حياتي بعدهم بعض مصابي بهم، مات أهلي وأحبائي وغمرت الدموع والدماء هضاب بلادي.. مات أهلي جائعين…».
ويقول «مات أهلي وأهلكم أيها السوريون، فماذا نستطيع أن نفعل لمن لم يمت منهم؟ إن نواحنا لا يسد رمقهم ودموعنا لا تروي غليلهم، إذن ماذا نفعل لننقذهم من الجوع والشدة». نشر جبران هذه القصيدة بمجلة الفنون عام 1917 وكأنه حاضر بيننا ويكتب في بوسطن مقر هجرته عن المأساة السورية الحالية. بخلاف أن سوريا الكبرى لم تعد سوى دويلات ممزقة وأهلها السوريون يبتلعهم البحر.

&