سامح فوزى

هناك حديث ممتد من المحيط إلى الخليج عن التطرف فى التعليم، منهجا معلنا أو حياة مدرسية، وتتعالى الأصوات التى تطالب بتعديل المناهج، التى يٌنظر إليها على أنها حاضنة للتطرف. بالطبع يصعب وضع كل الأنظمة التعليمية فى سلة واحدة، إذ أن أوضاع الدول العربية تتفاوت سياسيا وثقافيا واجتماعيا، وهو ما ينعكس على مناهجها التعليمية. هناك نظم تعليمية تلوثت بالتطرف، وتسعى للتخلص منه، وأخرى صممت على أساس من التطرف فى النظرة، ويصبح المطلوب إعادة النظر فيها برمتها. حول طاولة بحث ضمت ثلاثين باحثا اكاديميا من مختلف الأقطار العربية جرى حوار مكثف حول التعليم والتطرف الأسبوع الماضى بدعوة من مركز القدس للدراسات السياسية بالأردن.

أولا: هناك ما يشبه الإجماع على أن المقررات الدراسية بها كثير أو قليل من التطرف، يتراوح أحيانا بين غلو واضح أو تعصب وكراهية. اللافت أن عدوى التغيير سرت فى دول كثيرة التى همت بإدخال مفاهيم حديثة فى نظمها التعليمية مثل «التعددية، التنوع، قبول الاختلاف، التسامح، الخ»، ولكنها أدخلت بشكل قشرى هامشى أحيانا، أو جاف خشبى أحيانا أخرى، لا يسمح بتفاعل الطلاب معها، فضلا عن أنها لم تتعد كونها مفاهيم أدخلت فى المناهج الدراسية، لا أكثر، دون أن تهدف لبناء وعى بين الطلاب حول أهمية الإيمان بهذه المفاهيم، وممارستها على الصعيد العملي، وهو الأمر الذى قلل كثيرا من أهمية التعديلات ذاتها. يضاف إلى ذلك أن فى البلدان التى تشهد تعددية دينية ومذهبية وعرقية، فإن الأنظمة التعليمية لم تقدم صورة طبيعية عن الآخر المختلف، بل أمعنت فى حالات كثيرة فى تشويهه، ونسج الصور النمطية الخاطئة عنه، وهو الأمر الذى انتهت إليه دراسات ميدانية معتبرة.

ثانيا: هناك أيضا إجماع على أن العملية التعليمية ليست فقط منهجا أو مقررات، بل يضاف إليها، وهذا هو الأهم، ما يٌطلق عليه «المنهج الخفي»، أى ما يتعلق بتعامل المدرسين مع الطلاب، والأنشطة التعليمية، والحياة المدرسية بوجه عام. هنا يصبح من الضرورى الإشارة إلى البيئة الحاضنة للتطرف، التى تتمثل فى سيادة التلقين، وتعطيل الفكر النقدي، والاستبداد والقمع، وغياب الخيال، وضعف المشاركة، ومحدودية الانفتاح على المجتمع الخارجي، وهو الأمر الذى يحول المدرسة من مؤسسة مجتمعية منفتحة إلى مؤسسة بيروقراطية منغلقة. حتى ندرك أهمية الممارسة العملية فى المدرسة فى إكساب الطلاب ثقافة مدنية حديثة نشير إلى بعض مما ورد فى الميثاق الاخلاقى الذى تأخذ به المدرسة فى فرنسا، وتشجع الطلاب على ممارسته: «كل شخص برئ حتى تثبت أدانته»، «كل شخص له الحق فى اختيار المعتقد»، «كل الأفراد سواء أمام القانون»، وغيرها.

ثالثا: ثمة إشكالية عادة ما تبرز عند كل حديث عن التعليم والتطرف، وهى النظرة إلى الدين. هناك مخاوف يُعبر عنها صراحة أو ضمنا أن الحديث عن تنقية التعليم من التطرف يهدف إلى حصار الإسلام ذاته، ويسعى لتقزيم حضوره فى العملية التعليمية، وتسهم الخطابات العلمانية الحادة فى بعض الأحيان فى تغذية هذه المخاوف، وتحويلها إلى اعتقاد يقينى لدى أصحابها. الخروج من هذه المخاوف، وما يستتبعها فى حالات كثيرة من مقاومة للتغيير، يقتضى نقاشا هادئا موضوعيا صريحا. بالتأكيد لا أحد عاقل يشن حربا على الدين فى منطقة يدخل الدين فى تكوينها الثقافى والاجتماعى والجغرافي، ولكن الفصل بين الدين وبين ما يٌحسب على الدين من أراء غابرة، وتراث ملتبس، وثقافات أبوية تتحجب بأردية دينية مسألة أساسية، ومهمة، حتى نعرف أن الدين بمعنى القيم والاخلاق، المعتقد والإيمان، ليس فى قفص اتهام، ولكن ما يجب التصدى له هو الفتاوى والآراء والروايات التراثية التى ليست جزءا من الدين، ويحسبها العوام عليه. ومن غير المعقول الاحتماء بما نسميه «الشعبوية الدينية»، التى بها كثير من الغث، فى إطار الدفاع عن الدين ذاته، فى حين يقتضى الانتصار للدين الوقوف بصرامة فى وجه هذه الشعبوية الدينية، التى تأسر العقول بأفكار التطرف، وفى الوقت ذاته تحرمها من الانفتاح على المجددين الحقيقيين ممن سعوا لتحقيق التوافق بين الدين والحياة، الإيمان والمجتمع.

الحديث عن التعليم والتطرف طويل ولاسيما أن التيارات المتطرفة جعلت من التعليم هدفا مبكرا، وتحول من جراء ذلك إلى «منطقة صيد» بين قوى التطرف والدولة. بالطبع يصعب أن نعزل حالة التعليم المتردية عن ضعف المناعة ضد التطرف فى الأنظمة التعليمية، فالمؤسسات التعليمية صارت طاردة، لا تسهم فى التكوين الفكرى والنفسى لطلابها، لا تقدم خريجا يمتلك المعرفة التى تمكنه من المنافسة فى سوق العمل إقليميا ودوليا، وهو أمر إذا كان لا يمكن إغفاله، فإن ذلك لا يمنعنا من الخوض فى المعركة ضد التطرف، وسلاحها الأول، فى رأيي، ليس تعديل المناهج الدراسية فحسب، ولكن إيجاد ثقافة جديدة جاذبة بناءة للطلاب والطالبات. فإذا كان التطرف يقدم ثقافة جامدة، جافة، مفعمة بالاستعلاء، تقصى الآخر المختلف، فإنه فى المقابل لابد أن تكون هناك ثقافة مغايرة فى المؤسسة التعليمية تقوم على التكوين والحوار والديمقراطية، الانفتاح على المجتمع، وتدريب الطلاب على النظرة الإنسانية للحياة، وممارسة ذلك بين جنبات المدرسة، وخارجها.