محمد المزيني

ثمة شعرة ناعمة وخفيفة لا ترى بين الشجاعة والتهور، وبين المجازفة والمغامرة المدروسة، بهذا المعنى انتقلت المملكة بسياساتها الداخلية والخارجية من حيز الطموح إلى حيز الفعل، ومن حيز التنظير إلى التطبيق في عدد من التحولات الجوهرية، التي لم تكن تداعب العقول الخاملة، ناهيك عن الاتجاه الحثيث في سبيل تحقيقها.

&

بدأها بما يشبه المباغتة ملك الحزم سلمان بن عبدالعزيز بـ«عاصفة الحزم»، التي كبدت الحوثي ومن يقف خلفه الكثير، حتى أوشكت على السقوط النهائي لولا التعنت الذي يلازم قاداتهم الفرحين بمواقعهم القيادية، الطامحين بما يشبه المستحيل للوصول إلى سدة القيادة العليا في اليمن، تلك التي ستخولهم بما يشبه الأحلام من عرش اليمن، وبما أنهم لا يصدرون بقراراتهم من إراداتهم، ولا يقدحون شرارة أعمالهم الشريرة من رؤوسهم المحكومة بسياسات توسعية إيرانية، فهم يوقعون في مواطنيهم أشد البلاء وأعظم الرزايا، بلا تذمم للأرواح التي تزهق مجاناً بلا ذنب ولا جريرة، ربما من أجل تحقيق مآرب الحوثي الإيراني.

&

الشجاعة الحقيقية التي ابتدرت بها السعودية ملف هذا الصراع بغية إغلاقه بأقل الخسائر، على رغم تأثيراتها الاقتصادية الكبيرة لدول التحالف المشاركة، هذا الاستمراء والتمادي في الإفناء والقتل لن يحرك ضمائر الطامعين، بقدر ما يستجدي القلوب الرحيمة التي آلت على نفسها تخليص اليمن من براثن الأفاعي السامة، لذلك هي الأقرب إلى الحلول السلمية التي تعود على اليمن بالأمن والاستقرار.

&

أما الحوثي الإيراني فيسعى بكل ما أوتي من قوة لاستخلاص اليمن ولو عبر الأرض المحروقة، ولا يمكن أن نتصور عاقلاً أو ذا قلب رحيم يؤيد منهج الحوثي ورؤيته تحت أي ذريعة، وهو يرى القتل والدمار الذي تخلفه عشوائية المدافع الحوثية، باستخدامها المدنيـين كورقة ضاغطة على قوات التحالف.

&

لم يعِ هؤلاء أن السعودية مع قوات التحالف ليس لديها أطماع في اليمن، وإنما تقوم بما تقوم به بدافع استراتيجي تاريخي، ينظر إلى المستقبل من خلال تجارب الماضي ومسلمات الواقع الذي تريد إيران فرضه على أرض الواقع، ثمة خيارات سريعة تطرح بين الفينة والأخرى، منها: تقسيم اليمن بانفصال اليمن الجنوبي ودعمه لمواجهة الحوثي، وحماية خطوط التماس السعودية مع الحد الشمالي اليمني بحزام عسكري عازل، لقد وعيت السياسة السعودية أن هذا الحل السريع والمتعجل هو حيلة العاجزين، سيجعلها أمام حرب استنزاف مفتوحة لا تنتهي، وقد يؤدي هذا البتر إلى مضاعفات وخيمة على المنطقة، بدخول إيران تحت مظلة الحوثي في مواجهة مباشرة مع الانفصاليين تحت ذريعة الوحدة وعينهم على مضيق باب المندب، الذي ما فتئوا يساومون عليه، وهنا يكمن سر الحكمة السعودية في عاصفة إعادة الأمل، كي يغلق هذا الملف بإرادة اليمينين الصادقين إلى الأبد، وتأمن المنطقة برمتها من عبثيات الطامعين، ثاني تلك التحولات في المسار السياسي وقوف السعودية مع المعارضة السورية للوصول إلى رؤية موحدة في ثورتها ضد النظام السوري، الذي لا يبتعد كثيراً عن ممارساتها القمعية العشوائية ضد شعبه لبقائه في السلطة، وإن كان إيران الحليف الاستراتيجي الذي يصطف معه في خندق واحد، قد فقد بصيص الأمل الذي كان يراوده في تثبيت دعائم نظام الأسد بانتصار حاسم على كل القوى المتحاربة على أرضه، فإنه وبعدما اكتشف قوة الضغط وشراسة الخصوم، وفي مقدمهم الفصائل المقاتلة داخل جبهة المعارضة، التي دب بينها الخلاف، فبدا للسعودية أنها أمام واقع صعب لها كشفه عمق الخلاف الحاصل بينها، ذاك الذي استثمره نظام الأسد من خلال تداعيات الواقع السياسي والعسكري الأخير الذي أدخل روسيا في أتون المعمعة، لتؤازره ضد قوات التحالف مستغلة حالة الفرقة والخلاف الذي تسوده، لذلك يجيء موقف المملكة واضحاً وصريحاً في لملمة شعث هذه الفصائل، كي تصل إلى رؤية موحدة من خلال المؤتمر الذي عُقد في الرياض في الفترة الممتدة بين 11 و13 كانون الأول (ديسمبر)، وما أسفر عنه من توصيات من أهمها: توحيد قوى المعارضة السياسية والعسكرية والمدنية، ووضعها في مسار سياسي موحد في تعاملها مع الأحداث، ولتصبح المرجعية الأساسية لتحقيق مبادئ جنيف 1 في أي عملية تفاوضية لعل أقربها سيكون لقاء نيويورك المرتقب، ولم تمض السعودية في هذا الطريق السياسي الوعر لو لم تستشعر برؤيتها الثاقبة ما ينتظرها من ويلات إرهابية داعشية، تتخذ من أجزاء واسعة من سورية والعراق منطلقاً لعملياتها الإرهابية، وتنجح في تحقيق بعض خططها تحت مظلة لعب النظام السوري على الوجود الإرهابي الداعشي؛ لخلق أكثر من حالة صراع، وتفتح أكثر من جبهة مؤذية ليس في العمق السوري فقط، بل في العمق الخليجي، وهذا ما يحقق بعضاً من أهداف السد المبتغاة، عدا استطالة أمد الحرب التي ستخلق معها خضوعاً من نوع ما سيدفع بكل الفصائل للقبول بمسلمات الوضع الراهن، ومن ثم دخوله مفاوضاً أساساً في أي عملية تفاوضية.

&

السعودية تدرك هذا السياسة المخاتلة وتريد إنهاء هذا الملف بطريقة صحيحة ترضي جميع الفصائل السورية، شريطة أن لا يكون لمن أوغلت أيديهم بدماء السوريين أدنى حضور كالأسد ونظامه. ولهذا تختطف السعودية المبادرة في وقت حاسم لتشكل تحالف إسلامي عسكري يضم أكثر الدول الإسلامية لمحاربة الإرهاب بقيادتها، لتفصل بما لا يدع مجالاً للشك بين الحق الذي ينتمي إلى الرؤية الإسلامية ومناهجه الحقيقية، وبين الباطل الذي يتخذ من الإسلام شعاراً ويدنس قيمه ويشوه صوره، وهذا سيفوت الفرصة أمام الذين يحاولون تشويه صورة الإسلام الطاهرة والنقية التي تنزع للسلام أكثر من الحرب، وتؤمن بقيم التسامح وتعلي من شأن الإنسان.

&

في الشأن السياسي الداخلي تخوض السعودية تجربتين مهمتين، أولها: انتخابات المجالس البلدية مع تغييرات جذرية في الشكل والمضمون، إذ أثبتت المرأة حضورها بشكل لافت من خلال 20 سيدة للمجالس البلدية بطريق سلسلة، بما خوله لها النظام للمرة الأولى في تاريخ السعودية، مع صلاحيات «شخصية اعتبارية» ذات استقلال مالي وإداري، كما منح النظام الجديد المجالس سلطات أوسع؛ كسُلطة التقرير والمراقبة، وفقاً لأحكام النظام، وتخصيص اعتمادات مالية لكل مجلس بلدي ضمن ميزانية الوزارة، تشتمل على بنود بالاعتمادات والوظائف اللازمة التي تساعد المجلس البلدي على أداء أعماله، كما منحت المجالس وفي حدود اختصاص البلدية إقرار الخطط والبرامج البلدية الخاصة بتنفيذ المشاريع البلدية المعتمدة في الموازنة، وتنفيذ مشاريع التشغيل والصيانة وكذلك المشاريع التطويرية والاستثمارية، وبرامج الخدمات البلدية ومشاريعها، مع إقرار المجلس البلدي مشروع موازنة البلدية وفقاً للإجراءات النظامية، وإقرار الحساب الختامي لموازنة البلديات. دراسة مشاريع المخططات السكنية، ونطاق الخدمات البلدية، ومشاريع نزع الملكية للمنفعة العامة وضم أو فصل البلديات، والرسوم والغرامات البلدية، وشروط وضوابط البناء ونظم استخدام الأراضي، والشروط والمعايير كافة المتعلقة بالصحة العامة وإنشاء البلديات الفرعية ومكاتب الخدمات، وإبداء الرأي فيها، إضافة إلى ممارسة سلطاته الرقابية على أداء البلدية وما تقدمه من خدمات، وتشمل سلطات المجلس البلدي الرقابية مراجعة إجراءات تقسيم الأراضي وإجراءات منح الأراضي السكنية؛ للتأكد من سلامة الإجراءات. اقتراح الخطط والبرامج وتحديد أولوياتها، وإبداء الرأي في مشاريع الأنظمة واللوائح البلدية الجديدة، إضافة إلى منح المجالس ميزة تكوين لجان دائمة أو موقتة من بعض أعضائه؛ لتولي مهمات محددة، والاستعانة بمن يراه من خارج المجلس، وهو ما يعني أن المواطن سيُعفى من ملاحقة معاملاته عبر ردهات الوزارات المعنية، ولاسيما في ما يتعلق بالصلاحيات الموكلة إلى المجالس البلدية، ربما نحتاج إلى وقت كافٍ لمعرفة المنتخبين أهمية وجودهم وصلاحياتهم وكيفية ممارستها، ويمكن تجاوز ذلك من خلال دورات متخصصة ومكثفة تعقد لهم. الأهم أن هذه التجربة قد تحققت والمنتظر منها الكثير. ثاني هذه التحولات المنتظر تحقيقها: «مشروع برنامج التحول الوطني التنموي 2020»، الذي تبناه ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بوصفه رئيساً لمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، وبحسب وصفه فهو (برنامج اقتصادي مكثَّف يمهِّد الطريق لإطلاق حزمة من الإصلاحات الاقتصادية والتنموية، ومضاعفة قدرات الاقتصاد الوطني، تجاريًّا وصناعيًّا وماليًّا. تشترك في إنجازه كل قطاعات الدولة والقطاع الخاص)، وكأن الأمير بهذا النهج الجديد والتفكير المختلف يعيد صياغة الوطن وفق رؤية مستقبلية بما يحقق لها النماء والازدهار، ويجنب المواطن كثيراً من الأزمات التي تعصف به ويعجز عن حلها بمفردة، إذ إن المشروع أيضاً سيجعله أمام خيارات عملية وواقعية. بهذا تصبح السعودية الجديدة أمام مستقبل لا يزال تحت التعدين والتصنيع، ونحن متفائلون به حد التسليم، على رغم الصعوبات التي تكتنفه، المهم أن يخرج من حيز التنظير.
&