&أحمد عبد المعطي حجازي

&

&

&

إذا كان لى أن أقارن بين الخطر المتمثل فى العصابات الإرهابية التى نواجهها فى سيناء، والخطر المتمثل فى الثقافة التى تعتنقها هذه العصابات فأنا أرى أن الخطر الأول لايقاس بالخطر الأخير.


من المؤكد أننا نستطيع أن نقضى على العصابات الإرهابية فى سيناء وفى أى مكان آخر فى مصر . لأنها خطر ظاهر محدود نستطيع أن نراقبه ونمسك به ونقضى عليه . ولأن ما تملكه هذه العصابات عددا وعدة أهون من أن يقارن بما تملكه الدولة وما يملكه المجتمع.لكن الأمر يختلف تماما حين نقارن بين الثقافة التى يعتنقها الإرهابيون والثقافة التى نتصدى لهم بها . الإرهابيون فى هذه المقارنة كفتهم هى الراجحة . لأن ثقافتهم التى تخلط بين الدين والسياسة ، وبين العلم والخرافة، وتقوم على التقليد والنقل هى الثقافة التى لاتزال سائدة عندنا الى اليوم ، ليس فقط فى أوساط الأميين الفقراء الذين لم يتح لهم أن يتحرروا من تراث الماضى، بل هى سائدة أيضا فى أوساط لاتعانى ما يعانيه الفقراء الأميون ، ونظرة سريعة لمؤسساتنا التعليمية وللبرامج والمناهج المقررة فيها تؤكد ما أقول . برامج ومناهج تقوم على الحفظ وتربى الطلاب على السمع والطاعة ، وتقتل فيهم ملكة النقد وروح الإبداع. ليس فقط فى المستويات الأولى من التعليم ، بل فى كل المستويات بمافيها التعليم الجامعي، الذى تحول فيه العلم الى ملخصات قاصرة، ومحفوظات ركيكة، وتجارة مبتذلة بما سماه بعضهم «الإعجاز العلمى فى القرآن» ووضعوا له لافتات وعقدوا مؤتمرات ميزوا فيها بين العلم المسلم والعلم الكافر !وإذا كانت هذه هى الثقافة التى تتبناها مؤسسات الدولة التعليمية، فكيف تكون الثقافة التى يتنباها التعليم الدينى الموازى الذى نراه يحل محل التعليم الوطنى. فالمعاهد الدينية تنتشر فى المدن والقرى ، لأنها تعد طلابها الفقراء بالكثير ولا تطالبهم إلا بالقليل . تعدهم بشهادات تقول إنهم جمعوا بين علوم الدين وعلوم الدنيا . ولا تطالبهم بما يجعلهم جديرين بحمل هذه الشهادات.وقد بلغ عدد طلاب المعاهد الأزهرية فيما تذكره بعض البيانات أكثر من مليون طالب يتعلمون كيف يجمعون فى الحلال بين نظريات كوبرنيك وجاليليو ونيوتن وأينشتين وفتاوى ابن تيمية وابن أبى شجاع !

&

وقد رأينا خلال العقود الأخيرة كيف تبنى الإعلام المصرى هذه الثقافة، وكيف احتضنتها صحف قومية وأنشئت من أجلها قنوات فضائية أصبح المتحدثون فيها من أنصاف الأميين نجوما ينافسون نجوم الكرة ونجوم السينما فى الشهرة، فضلا بالطبع عن الأجرة.

&

&

ومن الطبيعى وقد تبنت المؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية هذه الثقافة أن يتبناها معظم المصريين، وأن يحولوها إلى لغة، وأسماء، وأزياء، وأحزاب سياسية، وجماعات دينية، ومدارس خاصة، ومستشفيات، وعيادات، ودكاكين صرافة، وجمعيات أهلية، وزوايا، وميكروفونات تعمل كلها ليل نهار لإعادتنا صاغرين إلى عصور الظلام التى حاولنا أن نخرج منها خلال القرنين الماضيين، فلم يتيسر لنا هذا الخروج حتى الآن، إذ لا نكاد نخطو خطوة إلى الأمام حتى تبهرنا أضواء العصور الحديثة فننكص على أعقابنا، ونعود لعصور الظلام من جديد نتعثر ونتخبط ونواجه تلك الجماعات والتنظيمات التى تحولت إلى حكومات ظل تعد نفسها لتولى السلطة فى المستقبل، الذى لن يكون إلا عودة للوراء نبتعد فيها عن العصور الحديثة أكثر وأكثر.

&

&

ومن الطبيعى أن تجد السلطات القائمة فى هذا المناخ فرصتها التى تلعب فيها دورها، فتخيرنا بين طغيانها الحليق وطغيان المتطرفين الملتحي. وقد ظللنا نفضل الطغيان الحليق ستة عقود متوالية اكتشفنا فى نهايتها أن الطغيان واحد وان تغيرت أقنعته، وأن الطغاة أيا كانت أصولهم حلفاء حتى لو اختلفوا فيما بينهم. لأنهم إنما يتصارعون على الانفراد بالسلطة ، فإذا تحرك الشعب واجهوه مجتمعين، وهذا هو القانون الذى حكم العلاقة بين نظام يوليو العسكرى وبين جماعة الإخوان وجماعات الاسلام السياسى بشكل عام. الطرفان يتحالفان، لكن لابد أن يتصارعا على السلطة. والطرفان يتصارعان، لكن لابد أن يتحالفا فى مواجهة الجماهير.

&

&

عبدالناصر تحالف مع الإخوان ليتخلص معهم من المتظاهرين المطالبين بالديمقراطية. والسادات تحالف معهم ليواجه معهم الناصريين واليساريين. وكذلك فعل مبارك، لكن الإخوان حاولوا اغتيال عبدالناصر فاعتقلهم وشنق زعماءهم. واختلف معهم السادات بعد كامب دافيد فاغتالوه. وحين سحب منهم مبارك المقاعد التى خصصها لهم فى مجلس شعبه أسهموا فى إسقاطه. لكنهم وقد اشتدت قبضتهم لم يكتفوا باقتحام السجون وإشعال النيران فى أقسام الشرطة، بل سرقوا الثورة بالاتفاق مع الأمريكان والمجلس العسكري، وانفردوا بالسلطة لينقذوا الطغيان من خطر الديمقراطية ويديِّنوه ـ بتشديد الياء الثانية ـ أى يلبسونه زيا دينيا يجعله طغيانا أبديا. وهذا هو التطور المخيف الذى استفز الجماهير، فهبت فى الثلاثين من يونيو لتسقط دولة الإخوان وحلفائهم. فهل أنهت الثورة قصة الإخوان؟ وهل خلصتنا من خطرهم؟

&

&

الجواب هو هذا الإرهاب المتوحش الذى نواجهه منذ عام ونصف عام، وسنظل نواجهه طالما بقيت ثقافة الإرهاب سائدة مسيطرة.

&

&

فى الخمسينيات والستينيات استطاع عبدالناصر أن يقضى على الاخوان كجماعة منظمة، لكنه لم يستطع أن يقضى عليهم كثقافة. هزمهم فى البداية. لكن ثقافتهم هزمته فى النهاية. فقد ألقى بهم فى المعتقلات. لكنه انفرد بالسلطة المطلقة واستبد بالحكم وأقام نظاما شموليا لا يختلف فى شئ عن النظم الدينية.

&

&

ولأن السلطة المطلقة متاهة يسير فيها الطاغية على غير هدى فلابد أن يضل، ولابد أن يسقط. وقد سقط عبدالناصر سقطات متوالية آخرها وأعنفها فى حرب الأيام الستة التى هزمنا فيها هزيمة نكراء، فرح لها الاسلاميون وعدوها نعمة لا نقمة. لأن انتصارنا فى هذه الحرب كان سيصب فى كفة الشيوعيين كما قال الشيخ الشعراوى وقد أنقذتنا الهزيمة من هذا المصير التعس. ومن هنا استحقت من الشيخ الإمام سجدة شكر لله. وتلك هذ الثقافة التى فرضت نفسها حتى على عبدالناصر الذى كان ينزل ضرباته بالإخوان ويحرص فى الوقت ذاته على أن يزود نظامه بمحسنات دينية أسهمت فى نشر وإحلالها محل الثقافة الوطنية التى طعنت فى الصميم بعد حل الأحزاب ومنع النشاط السياسى الحر، ثم طعنت طعنة أشد بهزيمة يونيو التى لم يجد المصريون ملجأ يفرون إليه منها ويطلبون فيه العزاء إلا الدين. وفى هذا المناخ خرج الإخوان من سجون عبدالناصر واستأنفوا نشاطهم فى ظل السادات أقوى مما كانوا، لأن ثقافتهم كانت تحفظ لهم مكانهم وتعوضهم عما خسروه. وهذاسيناريو يتكرر. فالإرهابيون قد يكونون سجناء لكن ثقافتهم طليقة. وقد يلقون السلاح، لكن ثقافتهم تحاربنا. ونحن قد نسقط دولتهم كما فعلنا في يونيو، لكننا نتخذ السلفيين حلفاء. نحن اذن لسنا أحرار، ولسنا طلقاء، ولسنا آمنين. نحن فى وجود هذه الثقافة سجناء ورهائن. ولابد إذن من ثورة أخرى!
&