لا يمكن توجيه اللوم كله لأهل الفن على اضطرابهم حيال ما يقومون به؛ مئات النماذج التائبة من السينما والمسرح والغناء في مصر والمغرب والخليج، وكل ذلك مرتبط مع موجات المد الآيديولوجي، وسيل الخطاب الوعظي، منذ شادية وحسن يوسف وشمس البارودي وقبلهم، وليس انتهاءً بحنان ترك وحلا شيحا، بل إن تاريخ التوبات الفنية خصص له خالد الجريسي كتاباً بعنوان «قصص توبة الفنانات والفنانين»، ومما رواه في الكتاب بحسب مراجعة قدمتها دعاء عبد اللطيف، أن «الراحلة شادية تبرعت ببناء دار للأيتام، ونشطت في إنتاج أشرطة تضم سور القرآن الكريم كاملاً مع ترجمته باللغة الإنجليزية، وتوزيعها على المراكز الإسلامية، وكان المفكر الراحل مصطفى محمود قد كشف خلال استضافته بأحد البرامج التلفزيونية عن تبرع شادية بشقة كانت تملكها في منطقة المهندسين لصالح جمعية مصطفى محمود الخيرية وكانت تساوي وقتها ربع مليون جنيه».
مثل هذه النماذج كثيفة لدى العرب والمسلمين؛ إذ يرتبط فعل الخير ويكون ذائع الصيت حين يتخذ النجم قرار التوبة، مع أن فعل الخير والإحسان مقبول من الجميع؛ فالله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. لا يمكن الحديث عن تاريخ الفن العربي والإسلامي من دون التطرق لموجات التوبة باعتبارها جزءاً أساسياً منه، ولكن لماذا بدأت المقالة بضرورة عدم وضع كل اللوم على الفنانين حيال ذلك الاضطراب؟!
لقد أفلتت معظم الحكومات تيارات الجهاد والصحوة والتثوير في بلدان المسلمين طوال العقود الأربعة الماضية، وما كان لدى هؤلاء المفلوتين أي حجج شرعية، ولا أدلة وبراهين دامغة ضد العمل الفني، وإنما كان الخطاب على طريقة خطب الشيخ كشك؛ الكثير من التصويت، والاستشهاد بأحاديث يعلم المتخصص مستوى ضعفها، والتوبيخ بقصص باطلة لا يصدقها عقل، وإلا فإن الفنون في الإسلام وبرأي كبار علماء المسلمين المحققين هي من الدنيويات المسكوت عنها والأصل فيها الإباحة ما لم يرد في العمل قبيح قول، أو محظور عمل، هذه خلاصة رأي الشريعة بالفنون جميعها.
بيد أن الوسط الفني بعمومه ليس وسط مثقفين وأكاديميين وباحثين، وإنما بسواده الأعظم جمع من الهواة ممن لديهم الحد الأدنى من التعليم، وآية ذلك أن المثقفين الكبار منهم لم تثنهم تلك السياط الوعظية عن أعمالهم لأنهم قرأوا ودرسوا، وحين تستمع إليهم يستحضرون سارتر وديستوفيسكي وألبير كامو، قل مثل ذلك عن عادل إمام ونور الشريف ويحيى الفخراني وأحمد زكي وعشرات الفنانين والفنانات من المثقفين القارئين العالمين ببطون أودية تلك الموجة، والفاهمين هدف تلك السطوة من تيار الصحوة؛ لذلك يكون اللوم الأكبر على من فلت تلك الظاهرة ثم عليهم لتقصيرهم في البحث والاطلاع.
إن السجال حول التوبة الفنية عاد إلى العلن بعد الصراع المستعر بين نجمين في مصر، هما تامر حسني وحلا شيحا، والقضية بحد ذاتها ليست موضع النقاش وإنما يهمنا دلالات الواقعة.
لقد مثّل نموذج حلا شيحا منذ أوائل الألفية حدثاً صارخاً؛ لأنها اعتزلت الفن بعد زواجها وهي في عز نجوميتها، ثم عادت مجدداً بعد أن اقتنعت فقهياً بأن ما تقوم به مباح كما في حوارها التلفزيوني مع إسعاد يونس. الموجة جرفت حلا شيحا رغم تكوينها المزدوج؛ فهي لبنانية من جهة أمها ومصرية في هويتها ومن جهة أبيها، ومع ذلك استطاع التيار أن يجرفها معه.
والصراع الحاد بين تامر وحلا ما يخصنا منه نقطتان؛ أولاهما: أن الفيديو الذي طرحه تامر جزء من فيلم مشترك بينهما ويعرض بالسينما وبالتالي لا غضاضة من إشراك المتابعين ببعض مقاطعه كما هو فحوى قول تامر؛ إذ يدافع عن نفسه. النقطة الثانية: أن حلا تقول صحيح أن الفيديو جزء من الفيلم ولكن توقيت نشره لا يليق؛ لأنه يوافق العشر الأُوَل الفضيلة من شهر ذي الحجة.. وذكّرت حلا زميلها بأمنيته التي باح لها بها ألا يلقى الله وهو داخل الوسط الفني.
هذه مشكلة تبين مستوى الاضطراب الكبير في الخطاب الديني المطروح للمسلمين؛ حين تتابع الطرح الفقهي والشرعي الرصين لدى العلامة عبد الله بن بيه، أو الشيخ محمد العيسى، وغيرهما ثم تقارنه بالضجيج والزعيق المبني على الباطل من الأحاديث، والمكذوب من القصص تعرف بالفعل أن الطريق نحو صياغة خطاب ديني يحدد شؤون دنيا المسلمين لا تزال طويلة.
إن الاضطراب العنيف بين الرضا عن العمل والاضطرار إليه سببه ضعف التقديم الفقهي والشرعي للموضوع الفني، وكأن الفنون طارئة على تاريخ البشرية رغم ارتباطها الأصيل بالإنسان، حيث «مسرحة الوجود» منذ الخطو الأول نحو البحث والتبصر. مضت أكثر من أربعة عقود على محاولة نفي الفنون واعتبارها «ذروة الرذيلة» وحوصر جمع غفير من الفنانين وهددوا من قبل الأصوليين إما باغتيالهم معنوياً أو حتى جسدياً وسط صمت رسمي مخيف.
المذيع المصري عمرو أديب علق على خلاف النجمين، خلاصة تعليقه أن القصة أكبر من هذه الواقعة؛ إذ تعبر الحادثة عن «موجة قادمة» يشير إليها بمحاولات حثيثة من الأصوليين لاستعادة نفوذهم وخطابهم عن طريق الوسط الفني كله سواء في السينما أو المسرح والغناء، وهذا مفهوم باعتبار الموجة الصحوية في الخليج تحاول الانبعاث عبر ركوب موجات حدثية تخاتل الحكومات، بل تتحداها في كثيرٍ من الأحايين.
من حق الفنان أن يعتزل متى شاء ويرتدي ما شاء، ولكن ليعلم أن الرأي الذي اختطه عود من حزمة؛ لذلك إن أقسى ما يمارسه العربي والمسلم اليوم أن كل واحد منهم يريد طرح نفسه كنموذج خارق واستثنائي في هذا الكوكب.. تلك هي الكارثة.
- آخر تحديث :
التعليقات