لن ينقضي البحث في الحدث الأفغاني قريباً؛ لأنه من وزن الأحداث التاريخية العاصفة والكارثية والدامية. أثمر الحدث ببساطة سقوط نظام ما بعد الحرب الأميركية، وإهانة بالغة للقوة الأميركية بشكلٍ يندر مثيله، ووصول «طالبان» إلى الحكم بحلة جديدة، وبشعارات مختلفة، وبآيديولوجيا تجاوزت بها ما كنّا نتحدث عنه قبل عقدين من الزمان.
والمستفيد من الحدث من الناحية الآيديولوجية (لا نتحدث عن القوى العظمى وصراع الإمبراطوريات) تياران ملتقيان؛ الأول قوى الإسلام السياسي، التي تنزع نحو تمدين خطابها السياسي ومحاولة إدماجه ضمن قوى الدولة، كما تفعل جماعة «الإخوان المسلمين» ذات الخطاب البراغماتي العالي، و«حزب الله» في لبنان الذي يزعم دفاعه عن الحريات وحقوق الإنسان ودفاعه عن كيان الدولة، والحوثي الذي يصارع العالم على ما يسميه الشرعية.
المستفيد الآخر من الحدث تيار «الجهاد» العالمي، ممثلاً بـ«القاعدة» و«داعش». و«القاعدة» لم تغب أصلاً عن أفغانستان، ولا تزال تُستخدم، حتى في هجوم الحركة على «بنجشير» زعمت قوات شاه مسعود أن «طالبان» استعانت بأفرادٍ من «القاعدة». أما «داعش» فخيولها حاضرة منذ فترة، والفرق أنها اليوم علت أسرجتها وغزت محيط مطار كابل بهجوم دموي كارثي، لكن تبقى خطورة «القاعدة» أكبر، وذلك لسببين؛ أولهما أن قادة «القاعدة» عادوا من إيران ومن مناطق ودول أخرى لأفغانستان وسط حفاوة واغتباطٍ بالغين، وهذا سيضيف على الأجيال الجديدة من «طالبان» و«القاعدة» ما ورثوه من «صديقهم» أسامة بن لادن، فـ«القاعدة» لديها حضورها الجماهيري وسط الأنصار.
وثانيهما؛ أن الخطاب السياسي الجديد في أفغانستان إنما يؤسس لضرورة استعمال «القاعدة» والاستثمار بها، فحين يتحدث قادة من الحركة عن عدم وجود أي علاقة مع «طالبان»، أو عدم مسؤوليتهم عن إطلاق عشرات «الدواعش» من السجون إنما يطرحون الخطاب السياسي الجديد الذي انتهجه «الإخوان»، ثم «حزب الله»، الذي حين تستمع إلى بعض خطابات نصر الله السياسية حول الدولة والمدنية والحريات تشعر أنه لا يغفو إلا وقد قرأ حزباً من كتابات روسو، كذلك الأمر في خطابات بعض قادة الحركة، والحذر من تحول هذه اللغة لأسلوب سياسي لتعويم «القاعدة» داخل المجتمع الأفغاني.
إن انتعاش هذين التيارين («القاعدة» و«داعش») المختلفين فقط في الاستراتيجيات والأولويات، والمشتركين في الآيديولوجيا والعمل الإرهابي والغايات، يضع على الحكومات عبئاً كبيراً لوضع حدٍ لمثل ذلك الانتعاش، لقد حذرتُ مع أصدقاء بعشرات المقالات خلال السنتين الماضيتين من مباغتة الحدث الإرهابي، وكان تحذيرنا الموجه بشكلٍ مباشر للحكومات المعتدلة يحذر من التساهل بملف الإرهاب باعتباره من الماضي، بل سيستمر بالانتعاش والتغلغل، ولن تنهيه العمليات العسكرية. إن الإرهاب فكرة وقناعة، وليس نتيجة غيظٍ أو أزمة شخصية أو مظلمة.
منذ ربع قرنٍ والخلاف عاصف بين المهتمين بملف الإرهاب، بين تيارٍ يعتقد أن الإرهاب نتيجة وضع قائم، وسببه المظالم، وهذا تيار يناصره محللون كثر من العرب وغيرهم، ومنهم أوليفيه روا، وآلان جريش، وجيل كيبل، وفرنسوا بورغا، وستيفان لاكروا، وآخر هؤلاء توماس هيغهامر في كتابه الحديث «القافلة... عبد الله عزام وصعود الجهاد العالمي»، وبخلاصة كتابه يقول: «لقد أصبحت النزعة الجهادية عالمية بسبب القمع المحلي، هذه هي أهم نتيجة لهذه القصة الطويلة والمعقدة؛ لقد أنتج عدم قدرة البلدان العربية على دمج الإسلاميين في السياسة الوطنية طبقة من الناشطين الذين بدأوا في السبعينات يتطلعون إلى المسرح الدولي كمجال للعمل. في الثمانينات قدّم بعض هؤلاء الوحدويين الإسلاميين لفكرة التضامن الإسلامي تفسيراً عسكرياً، وبدأوا يدعون المسلمين ليقاتل بعضهم بعضاً في حروبٍ، تضم أموال النفط والتكنولوجيا والجيوسياسية، لكنهم لم يكونوا ليبدأوا بمهمتهم من الأصل ما لم يتم إقصاؤهم من السياسة المحلية. بذلك تكمن الجذور الرئيسية للنزعة الجهادية عبر الحدود في السياستين المحلية والإقليمية للشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية» (ص 751).
التيار الثاني يعتبر الإرهاب فكرة لا نتيجة، وأساس صحة هذا القول نظرياً أن مناصريه ممن خرجوا من الحركة الإسلامية، قدّموا تراجعات، وبعضهم لبثوا في السجن بضع سنين، وكل من خبر الحركة الإسلامية بأطيافها كافة، يعلم أن الإرهاب فكرة وقناعة، فالإرهابي يستند إلى مفهوم نظري مؤسس، أكثر من اغتباطه بشعارٍ إصلاحي مسيّس.
لقد ذكرتُ مراراً أن الهدف من هذا التسبيب من قبل المحللين الفرنسيين قربهم من التيارات الإسلامية ساعة التدوين، ولارتباطهم بنزعاتٍ فكرية أقرب لتيارات اليساريين، بدليل استخدام عباراتٍ يشتركون فيها مع الأصوليين، مثل تحميل الحكومات النفطية مسؤولية دعم الجهاديين، منذ أيام الصراع مع الشيوعيين.
هنا نعتبر من الحدث الأفغاني ونأخذ الحيطة، ونتأمل في اجتلاء الدرس، أن الإسلام السياسي، والأصولية الفكرية، والحركة الإرهابية قادرة باستمرار على إعادة إنتاج نفسها، والحل ليس باستخدام السبل الأولى في المكافحة والتحصين، بل نحن أمام دولة مثل أفغانستان كان يتغنى بها الأميركان، حتى قبل سقوطها بأيامٍ، بأنها تمتلك جيشاً عظيماً ومدرباً كما لمح الرئيس بايدن، وبنهاية المطاف وجد الحركيون اللحظة التي ينسلون بها إلى الدولة، ومن ثم يسقطونها ويرثونها بجيشها ومؤسساتها وأهلها وناسها.
درس أفغانستان يعطي الحكومات كلها ضرورة الحذر من التهاون بشأن التيارات الأصولية وضرورة كشف مخاتلتها، لأن العدو الأول لمفهوم الدولة هو جماعات الإسلام السياسي، حتى إن أسست الدولة أو الإمارة فإن الفضاء العام والصيغ التشريعية والممارسات السياسية لا تختلف عن «الخلافة» النمط الحلم لدى كل الأصوليين.