هل انتبه أحد من قبل إلى أن الحركة الصهيونية والحرس الثوري الإيراني قد رضعا من الثدي ذاته؟ كنت أفكر وأقوم بمقارنة بين هاذين الكيانين اللذين يتشابهان، بل ويتطابقان، في كثير من الأفكار والتوجهات والأفعال، في مقدمتها أنهما انطلقا أساسا من مرجعية دينية، واستخدما الدين السماوي السمح كمبرر لسلب الآخر حريته وحقوقه، بل وإزهاق حياته.

عندما نشأت الحركة الصهيونية كان على كل يهودي أن يتبرع بمبلغ من المال لها، وبنت قوتها على المؤسسات البنكية العالمية، لتستغل وتقهر مواطني العالم بالفائدة وتغرق العالم بالديون، ثم استغلت ما ارتكب بحق اليهود من جرائم على يد النازيين من أجل كسب استعطاف العالم. كم تشبه فكرة مذابح الهولوكوست «المظلومية» التي قامت عليها الثورة الإيرانية!

وكما أقحمت الحركة الصهيونية اليهود حول العالم في فكرها وتوجهاتها، أقحم ملالي الإيراني الشيعة حول العالم، وفي مقدمتهم الشيعة العرب طبعا، في معركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وحرَّضوهم على الانسلاخ عن أوطانهم ومجتمعاهم التي اندمجوا فيها لآلاف السنين.

لكن بالمقابل نستطيع أن نرى أن كثيرا -إن لم يكن معظم- الشيعة حول العالم، وفي الأخص الشيعة العرب، اكتشفوا أو كشفوا نوايا الملالي وأفكارهم، وزيف الوعود التي يقدمونها، فها هي إيران نموذج عن ذلك. من يريد العيش في إيران بالله عليكم؟ من يريد العيش في العراق الآن؟ في لبنان؟ في اليمن؟ في سوريا؟ في كل مكان تدخلت فيه أو سيطرت عليه إيران الثورة؟ إلا إذا كان الطريق إلى الجنة يمر من خلال الفقر والجوع والقهر والذل طبعا.

أيضا ظهر عبر الزمن كيف أن الكثير من اليهود تخلو عن فكرة الصهيونية وأرادوا الاندماج في المجتمعات والدول التي عاشوا فيها لمئات وربما آلاف السنين، وأن يكونوا جزءا من تطورها وحضارتها. فمن الخطأ أن نعتقد أن كل يهودي صهيوني، كما أنه من الخطأ أن نعتقد أن كل إيراني هو حرس ثوري.

ويصر كثير من قادة الأحزاب الإسرائيلية حاليا على تقدم إسرائيل على أنها دولة يهودية، وذلك إما إيمانا منهم بذلك، أو لمجرد إرضاء الناخبين اليهود المتعصبين، لكن إيران ذاتها ليست دولة شيعية حتى وإن أراد الملالي أن يفهموا شعبهم والعالم ذلك، ولا يمكن تقديم حضارة الشعب الإيراني العظيم للعالم على أنه عمائم وعباءات، واليوم ينتفض الجميع في إيران: شيعي وسني وكردي وتركماني وعربي ليقولوا: كفى.

لقد هللنا للثورة الإسلامية في إيران في العام 1977 واستبشرنا بها خيرا، على اعتبار أنها ستحرر هذا البلد الكبير والجار اللدود من الفكر القومي الفارسي المعادي للعرب، وتنقله لديمقراطية أفضل، وتقضي على الفساد، وترفع من معدلات رفاهية وسعادة شعبه، لكن اتضح لاحقا أننا كنا مخطئين، تماما كما استبشرنا بالربيع العربي ثم تبين أنه خريف بارد مرعب جلب لنا التطرف والويلات والخراب.

لقد أغدق علينا الغرب وعود الدعم والمساندة والتأييد، لكنه لم يكن مخلصا كما يجب، حرَّضنا على ما سمي بالثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين ووعدنا أنه سيوحد بلادنا العربية من «الرجل العثماني المريض»، لكنه كان في الغرفة المجاورة يتقاسمها، ووجدنا أنفسنا دويلات في حدود سياسية مصطنعة، وخدعنا في الثورة الإيرانية عندما أخرج لنا الخميني، رجل الدين الكبير في السن الذي كان في فرنسا حينها وكان لا بد من شخصية تجمع الثورة الإيرانية حولها، كما خدعنا بالإخوان المسلمين، وخدعنا أيضا عندما أوهمنا أن فتن ومظاهرات العام 2011 في تونس ومصر وليبيا هي إرهاصات لولادة عالم عربي أفضل وأجمل.

اندلعت الثورة ضد الشاه بسبب الفقر، لكن الملالي سرقوها، وتربعوا على عرشها، جعلوا الشعب الإيراني -وما زالوا- يحلم بالعودة لأيام الشاه. لم تكن إيران حينها دولة منبوذة عالميا، وكان فيها حراك سياسي حزبي ديمقراطي، لنقل إنها كانت دولة طبيعية فيها مشاكل وتحديات لكن أمامها مستقبل.

واتضح أن «تصدير الثورة» هو ما يشغل بال الملالي، وما زال هذا النهج قائما، بل وأكثر قوة وعنفا ودموية بعد كل تلك السنوات، وإن كانت إيران الخميني انشغلت في حرب مع العراق لـ8 سنوات قيدت قدرتها على تصدير ثورتها والتدخل في جيرانها، إلا أنها حظيت لاحقا، بفرص كبيرة لتصدير ثورتها، وهذا ما نراه حقيقة ماثلة أمام أعيننا.

يفهم ملالي إيران مصطلح «تصدير الثورة الإيرانية» على أنه «نشر المذهب الشيعي»، وهذا النهج يعتمد يتخذ شكلين أساسيين، تدخلات ناعمة تحت مسمى بعثات ثقافية أو جمعيات أو مساعدات خيرية، أو خشنة عن طريق القوة الغاشمة والإجبار والإذلال. ما هو الحشد الشعبي بالله عليكم؟ وعصائب أهل الحق؟ من هو الحوثي؟

إيران نار تحت رماد، تشتعل في كل مرة من خلال مظاهرات وثورات تطالب بأدنى مقومات الحياة الإنسانية، فيقوم الحرس الثوري الإيراني بإخمادها بالحديد والنار، لكن قادة إيران أنفسهم يعلمون أنهم بذلك إنما يحاولون إعادة المارد إلى القمقم، وأن العصا الغليظة في مواجهة الشعب لن تنفع في كل مرة. ربما لن تتمكن المظاهرات حاليا في إيران من تغيير النظام، وذلك لكثير من الأسباب، لكنها بلا شك خطوات شجاعة على طريق طويل.

هناك واقع جديد يتشكل في العالم، فالإنسان حتى في أدغال إفريقيا أصبح أكثر نضا ووعيا، ويسعى خلف رفاهيته ومستقبل أفضل لأبنائه، وعلى هذا الأساس يحكم على قادته، والدعاية الرنانة من قبيل الموت لأمريكا الموت لإسرائيل وتحرير القدس والشيطان الأكبر أصبحت مستهلكة مهترئة لا تقنع حتى الأطفال الصغار.

آن الأوان أن نملك كعرب مشروعنا الخاص للمستقبل حتى لا نكون مرة أخرى ضحايا مشروعات الآخرين مثل الصهيونية والحرس الثوري، علينا طرح مشروع حضاري تنويري ننفذه، وينقلنا وينقل البشرية معنا إلى مكان أفضل، وهذا حلم يمكن تحويله لحقيقة إذا امتلكنا ما يكفي من إرادة وعزم.