عندما غصّت الغصّة في حلق المسؤولين في المقاومة الفلسطينية، قالوا إن الحرب الراهنة في غزة هي حربهم وإنهم قادرون عليها، وإنهم يشكرون كل مَنْ يمد العون بالمقدار الذي يستطيعه.

كان الأمر بمثابة اعتراف أخير، بأنهم لا ينتظرون شيئا من إيران ولا من حزب الله، ولا من ميليشياتها التي “تتناوش” مع الغزاة تناوش الذي يرغب بالمماحكة، لا تناوش الذي يريد الانخراط بالمعركة.

مع ذلك، ما كاد يوم يمر، من أسابيع الحرب الأولى، إلا وأدلى وزير خارجية الولي الفقيه حسين أمير عبداللهيان بتصريح يقول فيه إن “المعركة سوف تتسع”، حتى ساد الاعتقاد بأنها سوف تتسع بعد عشر دقائق. مضت ستة أسابيع حتى الآن، وستمضي ستون مثلها، والحرب لن تتسع.

المسألة، هي أن إيران وميليشياتها تريد أن تظهر نفسها وكأنها “على قدم وساق” في الطريق إلى الحرب. بينما تتفرج على مَنْ تسحقهم الدبابات والصواريخ.

إسرائيل تحتل الأرض، بتلك الدبابات والصواريخ. وكل ما تسعى له إيران، هو أن تحتل القضية الفلسطينية بالظهور بمظهر المعني الخارجي الوحيد بها، حربا لا سلاما.

وعندما تركز جهد المحيط العربي على مسعى تقديم مساعدات الإغاثة والضغط من أجل وقف إطلاق النار، فإن إيران لم تشترك في هذا المسعى، لأنها تريد أن تحافظ على الانطباع المزيف، بأنها تستعد للحرب.

ولكن، من دون أي دلائل. ولا حتى تدريبات أو مناورات عسكرية، تجعل غبار هذا الافتراض عاليا.

قبضَ الولي الفقيه ثمن الامتناع عن دخول المعركة، وأطلق سراح لسان وزير خارجيته ليُدلي بالترهات يوما بعد يوم.

لا تريد إيران أن تدفع أي ثمن للقضية الفلسطينية. تريد أن تشتريها بالتصريحات وببضعة صواريخ، أكثرها يُخطئ الهدف. والقليل الذي يُصيب الهدف منها، يرفع عقيرة الضجيج.

الإعلان عن تشكيل “طلائع طوفان الأقصى”، أراد أن يوحي بأن إيران وحزب الله يقصدان تشكيل ميليشيا فلسطينية مسلحة في لبنان. وفي يوم من الأيام، في المستقبل ما بعد البعيد، سوف تقوم هذه الميليشيات بالهجوم على إسرائيل.

هذا هو الافتراض. ولكنه أولا، افتراض رخيص. بمعنى “موت يا حمار…” لما يجيء ذلك المستقبل ما بعد البعيد. وهو ثانيا، خدعة رخيصة. فلبنان الذي “تخلص” من عبء منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1982، لن يُعيد إنشاءها من جديد. هذا أصعب على النظام، وعلى المؤسسة السياسية وعلى الأطراف اللبنانية مجتمعة، من هدم بيروت.

ما حصل هو أن حزب الله ورث الفراغ الذي تركته المنظمة، وسيكون المرءُ أضحوكة أمام نفسه، لو غالبه الظن بأن هذا الحزب سوف يترك شبرا في جنوب لبنان لهذه “الطلائع”، كان لم يسمح به للمقاومة الوطنية اللبنانية نفسها. الجيش اللبناني نفسه لا يتحرك في جنوب لبنان من دون إذن، فما بالك بميليشيا فلسطينية.

الاسترخاص الأهم، الدموي إلى أبعد الحدود، يقول إن حماس التي اختارت أن تخوض الحرب “من دون تشاور مسبق”، سوف تدفع الثمن بنفسها ولوحدها. وحيث إن الحرب لن تنتهي، بحسب التقديرات الإسرائيلية، إلا بالقضاء على حماس، فإن “طلائع طوفان الأقصى” هي التي سترث الفراغ، إنما لتكون منظمة “تتشاور” مسبقا حول ما إذا كانت عناصرها يمكن أن ترفع بنادق صيد، دع عنك “تحرير فلسطين” في المستقبل ما بعد البعيد.

هكذا، تشتري إيران القضية الفلسطينية ومستقبلها، بينما تزداد إسرائيل غطرسة وعنفا على الأرض.

قدم حزب الله نفسه على أنه يوجه ضربات “منضبطة” للاحتلال الإسرائيلي في شمال فلسطين. ليرد عليه هذا الاحتلال بردود “منضبطة” أيضا. ظلت غزة، في ذلك الحين، تُذبح من الوريد الى الوريد. تشرد نحو مليوني فلسطيني من منازلهم. ثم قتل وجرح ما يصل إلى أكثر من 60 ألف إنسان. تعطلت المستشفيات. وجاع الناس، بل وعطشوا، أكثر مما عطش الحسين في كربلاء، وظل “المنضبطُ” منضبطا. صاحبه قبض الثمن من يزيد بن معاوية، مثلما قبضه الذين تخلوا عن القتال مع الحسين.

إيران لا تريد أن تدفع أي ثمن للقضية الفلسطينية. تريد أن تشتريها بالتصريحات وببضعة صواريخ، أكثرها يُخطئ الهدف. والقليل الذي يُصيب الهدف منها، يرفع عقيرة الضجيج

ربما لأنه يريد أن يرث غزة وقضيتها، مثلما ورث الحسين وقضيته. وإنما لكي يلطم عليه وعليها إلى أن يأتي ذلك اليوم ما بعد البعيد.

وهم بالأحرى جبناء رعديدون. لا أكثر ولا أقل. باع أمثالهم الحسين بثمن بخس. يومها، تركوه يُذبح من الوريد إلى الوريد مع حفنة من أسرته وأعوانه، وباعوا غزة بثمن بخس. اليوم، تركوها تُذبح من الوريد إلى الوريد مع حفنة مسلحين قالوا “إنه لجهاد، نصرٌ أو استشهاد”.

وسيكون استشهادا. وإنما لن يرثه إلا وارثوه الحقيقيون. أطفال غزة أنفسهم. هؤلاء هم من سيخرجون كالعنقاء من الرماد، ليرموا حمم القتال الأخير.

ابتلع حزب الله التهديد، بأن تتحول بيروت إلى غزة ثانية، كما وعد يواف غالانت وزير الدفاع الإسرائيلي. لم يرد عليه بالقول: نملك ما يحول تل أبيب إلى غزة ثالثة. وهو يملك هذه القدرة بالفعل.

كان يكفي أن يوظفها، كتهديد على الأقل. إذ لم تكن المقاومة الفلسطينية لتطلب أكثر من وقف الحرب. كان ذلك بالنسبة لها نصرا كافيا.

لم يكن من الصعب، ولا من المكلف أصلا، أن يقول حزب الله: أوقفوا الحرب الآن. لا تضطرونا إلى دخولها ونحن لا نريد.

إلا أنه لم يفعل. إيران وميليشياتها، قبلتْ التصورَ الإسرائيلي بأن الحرب لن تتوقف قبل انهيار سلطة حماس، ولا قبل نزع سلاح غزة، وبقاء القطاع تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية.

قبلت إيران هذا التصور، على أن الحرب بالنسبة لإسرائيل هي حرب “حياة أو موت”، فاختارت التواطؤ بالانضباط لتحيا إسرائيل، وتموت المقاومة في غزة. فترث اللطم على الحسين في “موكب” حسيني للخداع ودموع التماسيح يدعى “طلائع طوفان الأقصى”.

سوى أن المقاومة لن تموت. لا في غزة ولا في الضفة الغربية ولا في أراضي 48. طائر العنقاء يظل يُبعث من الرماد ليلقي حمم الجحيم على الغزاة، أقرب مما يتوقع اللطّامون على الحسين.

غزة قد تستشهد، ولكن لتولد من جديد. تلك هي طبائع الأمور في هذه الأرض. ذلك هو وعدها، ونصيبها. وقولها هو القول الأخير.