هل رأى المثقفون في مكان ما شيئاً كهذا السؤال: ما هو مستقبل أجناس الكتابة تحت تأثير وسائط التواصل؟ يبدو أن ذاكرة القلم تراجع أداؤها، وإلاّ فإن الأوساط المعنيّة كعادتها تتلقّف هذه القضايا وهي طائرة، بل إنها تستشرفها وتحلّل أبعادها، من قبل أن تحدث القضايا، على غرار الصوفيّ ابن الفارض: «شربنا على ذكر الحبيب مدامةً.. سكرنا بها من قبل أن يُخلق الكرْمُ». لكنّ الاستشراف العربي يكون أحياناً سيراً في الاتجاه المعاكس، بدليل أن بلداناً عربيةً جعلتها حضارة الأقوياء على مشارف العصر الحجري.
لا حديث عن أجناس كتابة في مستوى الشعر والرواية والمسرح، لكننا أمام أشكالٍ نصوصُها، وإن قصرت إلى حدّ الاختزال، فإنها تنزع أحياناً إلى انتحال الأساليب الأدبيّة. هنا الخطورة، فالضوابط منفلتة جرّاء: «من المنتج إلى المستهلك». الانفلات واقع في مجالات شتّى. ديمقراطية «الإبداع» أو شيوعيته بلا قيود لها سلبيات كثيرة، فالمؤسسات ذات العلاقة، كالصحافة وسائر وسائط الإعلام ودور النشر، لها معايير ومنظومة قيم مهنيّة، أمّا وسائط التواصل فهي ساحات عامّة لا حَكَم فيها ولا أحكام، لا فرق فيها بين الماريشال والجندي.
لكن، من الضروري التحلي ببُعد النظر، فالطبيعة مفعمة بالدروس. كل الكائنات الحية على وجه الكوكب نشأت من خليّة أولى، ثم أخذت المخلوقات في التشكل والتكاثر. حين انبثقت مخارج الأصوات العربية (قس ذلك على كل اللغات)، لم يكن في إمكان جنّيات وادي عبقر، تخيّل إيقاعات الشعر التي سيصنّفها الخليل بعد قرون إلى بحور يبدع فيها الشعراء بحاراً من البدائع والروائع، كما لم يكن شعراء العصرين الأموي والعباسي تخطر لهم حتى في الأوهام تحوّلات كشعر التفعيلة وقصيدة النثر الحداثوية وما بعد الحداثة.
ما هي الآثار المستقبلية لهذه الاختزالات القلمية كالتغريدات؟ لا ينصرف ذهنك إلى أن المصائب لا تأتي فرادى، فمنسوب أنهار الإبداع منخفض بشكل مقلق، في أجناس الأدب والفنون العربية. لغتنا ذاتها متراجعة تعليماً وكتابةً، كأن سلامة العربية أمست ثانويّة، وكأن الجماليات الأسلوبية أصبحت غير ذات بال. في المقابل، يحرص غيرنا على نشر لغته، فمنذ أواخر 2023، ظهرت كالفطر في الشبكة أعداد هائلة من مواقع تعليم اللغة العبرية، بالعربية. قد يغدو عدم تعلّمها معاداةً للسّاميّة!
لزوم ما يلزم: النتيجة الفكرية: لا تستقيم الثقافة والإعلام من دون مراكز بحوث استشرافية.
التعليقات