لو القينا نظرة سريعة على أدبيات أغلب الأحزاب والتيارات السياسية في كُردستان، سنجد أن لشيعة العراق مكانة طيبة وثمة تعاطفاً سياسياً مع هذا المكون المجتمعي لأسباب عديدة، ربما أبرزها حرمان هذا المكون من لعب دورها الحقيقي في الدولة العراقية الجديدة (1921م) وتعرضها لشتى أنواع القمع والإضطهاد وتجريدها حتى من ممارسة الطقوس المذهبية والعيش بعز وكرامة دون الشعور بالغبن والإقصاء. وهذا الود الكُردي مع الشيعة كان ناتجاً عن الذاكرة الجمعية العراقية والقواسم المشتركة التي تربط هذين المكونين من حيث المعاناة والمظالم والمآسي، التي لحقت بهما في الماضي على يد الأنظمة الحاكمة وجعلتهما طرفان متقاربان في الكثير من القضايا ومترابطان بأواصر القرابة السياسية والنضال ضد الديكتاتورية، لاسيما إذا ما تذكرنا أن كُردستان العراق كانت، على الدوام، ملجئاً حاضناً لمعظم مناضلي الشيعة واحزابهم وحركاتهم في مراحل تاريخية مختلفة الى حين سقوط النظام البائد.
ولا مراء من أن الكُرد وبناءاً على هذه القواسم والخلفيات السياسية المشتركة، قد شاطر التفاهم والتحالف مع ممثلي هذا المكون المجتمعي أملاً منه في بناء البلد مجدداً والعمل على توسيع دائرة المشاركة السياسية وضرورة إشراك المكون السُني في ادارة البلد، خاصةً أن هذا الأخير كان طرفاً مقاطعاً للعملية السياسية آنذاك، مما دفع بالكُرد أن يلعب دوراً وسيطاً في ذلك الوقت بين شيعة العراق وسنته ويعمل على إحتواء خلافاتهم، وربما الإتفاقيات التي ابرمت بين الأطراف السياسية لتشكيل الحكومات ليست إلا دليلاً على حضور هذا الدور، لاسيما مع المساعي المخلصة التي كان يبذلها الرئيس الراحل"جلال طالباني 1933-2017م" بحماس وإقتدار لتوحيد البيت العراقي وتذليل النزاعات بين الفرقاء السياسيين.
إضافة الى ذلك، تَعاملَ الكُرد مع الشيعة أحياناً، وفي قضايا عديدة، على أنها الأخ الأكبر من الناحية الرمزية والمعنوية، وكان هذا الموقف صادراً عن مبدأ ديمقراطي يأخذ في الإعتبار الثقل الديني والمذهبي والإستحقاق السياسي والإنتخابي في آن واحد، ويعول على أن يكون هذا المكون هو الطرف الحامي الأول لحقوق الجميع بحيث يُكرس الدولة وأجهزتها لا لإقصاء الآخرين وإستبعادهم- كما كان الحال في العهود الماضية- وانما لخدمة العراق الجديد والسهر على تجربته والإقرار بحقوق العراقيين جميعاً قبل الشروع في تأمين حقوق ومصالح مكون ما دون غيره، أو على حساب المكونات الأخرى..
نعم لقد كانت الرؤية الكُردية لمقاربة مكانة الشيعة في العراق، على هذا النحو تماماً، وقد أثبت الكُرد حرصه الكامل على إقامة أفضل العلاقات مع هذا المكون، لاسيما بعد التحرر من النظام السابق(1991م)، وبَيَّن إحترامه الكبير دوماً للمراجع الدينية، وقد قام بشييد حسينيات عديدة من أجل تعزيز أواصر الأخوة في الدين و الحضارة وفسح المجال لممارسة الطقوس بكامل الحرية في المناطق الخاضعة لسيطرة الإقليم، ولم يتصور أحد منا يوماً هنا، في كُردستان، أن تنقلب الأمور الى هذه الحالة المتردية الراهنة!، أي ظهور عقليات عدائية إقصائية من بين ثنايا هذا المكون تتصدرها النخبة الحاكمة من جهة وتغذيها الفضائيات الطائفية المتخلفة من جهة أخرى، ولا كان في بال أحد منا أبداً أن يتحول جزءاً من ممثلي المكون الشيعي في السلطة وأجهزة الدولة، وبهذه الصورة الخطيرة والفضيعة، من خادم الى مُخادع، ومن مظلوم الى ظالم، ومن الساهر على البلاد الى القاهر للعباد!
كما ولم نتخيل أطلاقاً أن تصل الأمور معنا الى حد قطع أستحقاق أبناء كُردستان من ميزانية الدولة الإتحادية لمدة سنتين بذرائع واهية، و اللجوء الى جريمة قذرة، هي تجويع المواطن وتوريطه في الصراعات السياسية، الجريمة التي لم يجرؤ على إرتكابها حتى نظام صدام حسين بعد أن ساء صيته عالمياً جراء جرائمه بحق الكُرد وبعد أن وصل أخيراً- لاسيما بعد الإنتفاضة الكُردية في عام 1991 وسحب مرافق الدولة من كُردستان- الى قناعة سياسية، مفادها، أن الكُرد، لايردون وجود سلطته في كُردستان، وبالتالي لاينبغي أن يُرغم شعباً بالكامل لإرادته وسلطانه بمنطق القوة والإكراه كما ورد ذلك في بعض من إجتماعاته المسجلة مع القيادة القطرية للحزب البعث (1968-2003م). هذا علاوةً على أن صدام لم يقطع حتى الحصة التموينية للشعب الكُردي طوال سنين الحصار المفروض دولياً على العراق ولم يُحرك أي قطعات عسكرية من الجيش العراقي بإتجاه كُردستان وإحتلالها ثانيةً منذ ذلك الحين(1991م) الى يوم سقوطه (9/4/2003م) بإستثاء تدخل عسكري واحد جاء على خلفية الصراعات الكُردية- الكُردية (1996م) وليس بمبادرة منه.
نذكر هذه الحقائق ليس بهدف المماثلة بين الشيعة وحزب البعث، ولايحق لأحد منا أن يُقارب الأمر بهذه المطلقية المجحفة دون أي تمييز، وأنما لنُبَين قناعة توصلنا اليها بالتجربة حول عراق مابعد النظام البائد، وهي،"ان نهاية الدكتاتورية لاتعني بالضرورة ولادة الديمقراطية"، وتنطبق هذه الحقيقة الدامغة حتى على تجربة كُردستان، لأن هذه الأخيرة، هي الأخرى، غير ناضجة، بل قاصرة في اكثر من وجه ولاتزال بحاجة التنشيئة والمزيد من الصراع لكي تتجاوز الثقافة الشمولية الموروثة من البعث وإرساء الديمقراطية قيماً وقواعداً، وهذا الصراع لايزال قائماَ حتى هذه اللحظة ولم ينتهي، غير أن مصداقية القناعة التي تكونت عندنا بخصوص ثنائية الديكتاتورية والديمقراطية، تتجلى اليوم، أكثر من أي وقت مضى، في رصدنا لمواقف أكثر تطرفاً و راديكالية مما هي عليها مواقف الآخرين!، أعني هنا مواقف أطراف وأشخاص سياسية شيعية متزمتة في العراق أصبحت اليوم تُوَلّد لنا شكل آخر من آشكال الديكتاتورية، وتُهيمن على مقدرات الدولة، بل تُفَكّك الأسس والمباديء التي قامت عليها العملية السياسية برمتها، وتنتهج سياسات خاطئة تشبه كل ما كان يمارسه البعث في العراق تماماً..!
نعم أن هذه النخبة الحاكمة في العراق، صارت تسيء الى كل شيء، وتتشبث حتى بمفاهيم البعث في مقاربة الخلافات السياسية كأستخدامها لعبارات "الأنفصاليون"، و"المخربون"، و"الخونة" و "عملاء الأجنبي" و"أداة الصهاينة"...والخ، وتسويغ كل هذه النعوت والتسميات الجوفاء بحق الكُرد بإطلاق عبارات أخرى بعثية مُخادعة أيضاً، هي"وحدة العراق" و"حماية التراب العراقي" و"مصلحة شمالنا الحبيب" وما الى ذلك، ولكن دون أن تعي في النهاية إن كل هذه المنطوقات و الأدبيات التافهة والفارغة من المعنى، لا تجديها نفعاً ولايمكنها التغطية على الواقع المرير الذي أنتجته للعراق، وانما تُزيد الطينة بلة وتشعل نار المشاعر القومية لدى أطياف واسعة من الشعب الكُردي لحد غض هذا الأخير النظر أحياناً عن بعض الأخطاء التي ترتكبها قياداته السياسية!. 
من جهة أخرى، أن ممارسات هذه الجماعات المتنفذة في الدولة العراقية، باتت تتجاوز حتى البعث في العنجهية والغطرسة، بحيث وصل معها الأمر الى درجة أستخدام مجلس النواب كآلة ودُمية بيدها و جعله (أغورا طائفية) لتمرير قراراتها الظالمة وتنفيذ عقوبات جماعية بحق الشعب الكُردستاني لا لشيء آخر سوى لأن هذا الشعب أقترف (جريمة) تفويض قيادته للتفكير في خيارات أخرى سياسية تحد من إمكانية إقصاء الكُرد من العملية السياسية و تضمن له تقرير مصيره بالصورة التي تحميه من نخبة طائفية متهورة دمرت بالأمس المكون السني في البلد وتخطط اليوم لتدمير المكون الكُردي أيضاً، ولكن دون جدوى! لماذا وكيف؟ لأنه، وبكل بساطة وصراحة، ستواجه مقاومة عنيفة على كل المستويات والصعد وستَلحَق بها هزيمة على غرار هزائم الغزاة، ولعل تجربة فضائح البعث و جيشه الجرار في كُردستان خير دليل على ما نقول!
ولهذا السبب بالذات وتجنباً لويلات وحروب أخرى طاحنة في البلد، ينتظر الكُرد اليوم وبفارغ الصبر أن تتحرك الشخصيات والتيارات السياسية الشيعية الشرفاء بإتجاه الحد من غطرسة هذه النخبة وإصلاح الأمور وإحتواء الأزمة، لاسيما أن الدعوة موجه أولاً الى شخصيات من امثال آية الله علي السيستاني، والدكتور عادل عبدالمهدي، والسيد مقتدى الصدر والتيار اللبرالي الشيعي و المثقفين منهم وكل الذين لايرغبون بمُقاتلة الكُرد ولايحبذون سفك الدماء ولايريدون إعادة التاريخ وتشويه سمعة الشيعة بأكملها بسبب جماعة سياسية متسلطة وثملة، يعلم القاصي والداني بأنها لم تقدم أدنى مستوى من الخدمات والمشاريع الحيوية حتى للمحافظات ذات الغالبية الشيعية، ولا تفقه أي شيء سوى الركوض وراء مصالحها الخاصة و الشخصية بل وراء السلطة و الثروة والمزيد من المال الحرام، ولم يتحقق شيئاً في ظلها سوى المزيد من الخراب للبلاد والعباد، بل هي اليوم لاتمثل للعراقيين شيئاً سوى زمرة فاشلة وغارقة في الفساد الإداري و المالي لدرجة صار معها اليوم العراق في رأس قائمة الدول الفاسدة والمديونة بالمليات الدولارات، ومن المعلوم أن الذي سيدفع ثمناً باهظاً لكل هذه المجازفات والإستهتارات بإرادة الشعب و حاضره ومستقبله ليس إلا الشعب نفسه.


كاتب و باحث من أقليم كُردستان