كثيرا ما أجول في الاسواق بحثا عن ضالتي فيما احتاجه من ملبس ومشرب ومأكل فلا أجد مما تنتج بلادي الاّ النزر اليسير جداً وكأنّ أبناءنا العاملين المثابرين عطلت أيديهم وتهاوت عقولهم وارتخت همّتهم، وانا الذي تعلمتُ منذ صغري ان أكون سعيدا كلما رأيت بضاعة مميّزة من نتاج بلادي فأسعى لأقتنائها خاصةً اذا كنت أحتاجها آنيا أو لاحقا ؛ فلا زالت نصائح معلمي وأبي ومن تعلّمت منهم من الكتّاب والمفكرين تحفّزني على ان اشجع صناعتنا الوطنية وما تبتكره الأيدي العراقية ولا أعبأ ان كانت غالية في سعرها فأقدم على شرائها وأضمها الى مقتنياتي.
قد يتهمني البعض بأني " بائع وطنيات " وممن يسميهم البعض استهزاءً " دقّـة قديمة " في هذا الزمن الكالح الذي تسحره عقدة الخواجه والانبهار بما يطرحه الغرب وغير الغرب من صرعات الموضة التي أوسعت كل شيء ولم تعد تقتصر على الهندام وإناقة الشكل.
تحضرني هنا وانا اكتب هذا المقال قصة السيدة المسماة " هوْ " زوجة الرئيس السنغافوري حين زارت الولايات المتحدة في العام الماضي ودُعيت الى محفل مخمليّ في صالونات الطبقة الراقية ولا أظنها راقية في عرفي واعتقادي وهي تمسك حقيبة يد رخيصة ليست من مصنوعات شركات الرأسمال الكولونيالي مثل " سانت لوران " او " جيوكسي " وغيرهما وكانت بصحبتها السيدة ميشيل أوباما احتفاءً بها ، واذا بالجمهور يهزأ بها وبحقيبتها الزرقاء المتواضعة البخسة الثمن مجهولة الماركة التجارية وحذت الصحف الاميركية حذو المجتمع المخملي في انتقاد السيدة الزائرة وظهرت وسائل الاعلام بمانشيتاتها للتندّر عليها وإبداء السخرية والمقارنة بما كانت تحمل السيدة اوباما وصديقاتها من المدعوات من حقائب باذخة لو قورنت بحقيبة السيدة الزائرة.
وامام سيل السخريات والاستهزاء اضطرت السيدة حرم رئيس الوزراء السنغافوري الى كشف حقيقة الحقيبة حيث قالت انها اشترتها من معرض بسيط أقامته احدى مدارس بلادها ممن تأوي الطلبة المصابين بالتوحّد واختارت هذه الحقيبة من مقتنيات وصنع طالبٍ بعمر التسع عشرة سنة قضى وقتا غير يسير في إنتاجها واشترتها منه بمبلغ أحدَ عشرَ دولارا تشجيعا ودعما له وما ان شاهد الجمهور الزائر للمعرض مبادرتها وهي تشتري تلك الحقيبة الزرقاء حتى زادت الطلبات لشراء هذا النوع من الحقائب وما صنعته أيدي الطلبة المصابين بالتوحّد ، وهي غاية نبيلة حقا ووسيلة راقية لتشجيع نتاج أبناء بلدها مهما افتقدت من جمالية فليست الماركات – وانا أنقل هنا كلامها -- هي من تجعل الناس تحترمك وتجلّك انما الهدف والرسالة التي تحملها هي من تحدد قيمتك ودورك في تعزيز ممتلكات بلادك وتشجيع منتجاتها.
ومثل هذه المبادرات التشجيعية على بساطتها وقلّة كلفتها على ما يبدو للوهلة الأولى هي من تضع اللبنات الاولى لترسيخ الروح الوطنية وقدحة التشجيع التي تشعل الانسان همّةً وعزماً وتعلّقا ببلاده ويليها المبادرات والخطط البعيدة المدى للتطوير بكافة المجالات النهضوية لبناء الانسان السليم كي يترافق مع نماء البناء التحتي ، اضافةً الى ارتقاء التعليم الجيد وترسيخ روح المواطنة والعمل الجاد والمثابرة العالية ودعوة الاستثمارات النفطية وهذه كلها هي من صنعت جزيرة بائسة فقيرة وصغيرة اسمها سنغافورة هذه البلاد التي انجبت السيدة " هوْ " والتي كانت غارقة في الأوحال وتسمى قبلاً دولة المستنقعات والبعوض والفقر المدقع نظرا لافتقارها الى الثروات الطبيعية حتى صارت اليوم من اقوى وأغنى الاقتصاديات في العالم ، فهذه البلاد في الاصل خليط من عدة قوميات ولغات وأعراق ليست متجانسة قبلا ولا يجمع شعبها جامع التاريخ المشترك واللسان الواحد وتكاد تكون شبيهة بالشعب العراقي من حيث اللاتجانس بين الشعب الواحد لكن مع الفرق ان العراق غنيّ بثرواته لكنه معدم وفقير بالمحصلة النهائية.
لكن العقل المبدع والناجز هو من جعل هذه البلاد في الصدارة في تكرير النفط وتجارته وبروزها في صناعة البتركيماويات ورفع مستوى دخل الفرد فيها الى مايفوق 80 الف دولار سنويا بعد ان كان قبل ثلاثة عقود دون الالف دولار ، والآن هي بلاد ناهضة جدا تخلو من البطالة ؛ ولو ظهرت في ظرف ما او أزمة عارضة فانها لاتتعدى 2%.
ومها قيل بان هذه الدولة كان يحكمها الدكتاتور " لي كوان يو " وخلّفه ابنه بعد شيخوخته واتهام الغرب له بتقليص الحريات المدنية ونظامه المتسلط المركزي وقبضته الحديدية على معظم مفاصل الدولة ، فهذا القائد الشيخ لم يكن يملك الاّ راتبه وبيته المتواضع وبعد موته في العام / 2015 لم يرث الاّ تركة تعدّ أثمن من مال الدنيا كلها ؛ فذكره باقٍ في عقول وقلوب السنغافوريين وسمعته النزيهة اخترقت حدود بلاده ووصلت الى أصقاع الدنيا.
وهل اجمل من رجل نعتوه دكتاتورا فقيرا لايملك من حطام الدنيا سوى سمعة ذهبية بارقة في الأنحاء والأرجاء مهما بعدت في كوكبنا كله وجعل بلاده من ارقى البلدان صناعة وتعليما راقيا ووفرة في المال واتساعا في الصناعات النفطية والبتروكيمياوية وبناء السفن.
هاتوا لي دكتاتورا ناعما حريريّ الملمس بمواصفات هذا الرجل ونزاهته ؛ تشغل بالَهُ حتى حالات التجهّم في الوجوه حينما يجول في الشارع والسوق ويتفقّد أهله ورعيّته ويدعو الى إشاعة الابتسامة بين الناس ، ويقلقه رمي النفايات في الشوارع عبثا ويمتعض من رمي علكة المضغ على الرصيف واسفلت الطريق.
ليتنا نجيء بمثيلٍ له ليدير شأننا ويحكمنا ؛ ولا تنسوا ان تأخذوا كل تقاليدكم الديمقراطية التي تتشدقون بها وخذوها الى غير رجعة حتى يتعلم الشعب ويستطيع هضمها واستغلالها وفق الطريقة السليمة ، فلم تعد تنفعنا الآن على الاقلّ لسبب بسيط وهو انها لاتنبت في ارضٍ سبخة غير صالحة للديمقراطية.
التعليقات